طلال مداح .. بين التاريخ وصديقي!

بقلم ـ خليل إبراهيم القريبي
----------------------
تلك اللحظة العابرة، وأنا أستمع إلى مقطع غنائي باهت أرسله لي صديق مقرب، مقطع ينتمي إلى حقبة ما قبل سطوع نجم صوت الأرض ، طلال مداح ، رحمه الله، كانت كافية لتفجير قناعة راسخة في داخلي: "لا فن حقيقي قبل وبعد طلال". لم تكن مجرد جملة عابرة، بل كانت تلخيصًا لإيماني المطلق بأن هذا الصوت الفريد، وهذا الاحساس المتدفق، قد وضعا حدًا فاصلاً في تاريخ الفن.
لم يتردد صديقي لحظة في الاتصال الهاتفي، معترضًا بحماس، بل ربما بشيء من العتب على هذا "التحيز المتشدد" كما وصفه. كان يعترف بعظمة طلال، وهذا أمر لا يجادل فيه عاقل، لكنه رأى في كلماتي إنكارًا لتاريخ فني طويل وعريض. هنا، اشتعل فتيل جدالي، وبكل إصرار وقوة قناعتي، دافعتُ عن وجهة نظري بلا هوادة. لم يكن الأمر مجرد تفضيل شخصي، بل كان إعلانًا عن حقيقة فنية بدت لي جلية وواضحة.
لقد كان إصراري نابعًا من يقين عميق بأن طلال مداح لم يكن مجرد مطرب، بل كان ظاهرة فنية ثقافية متكاملة. استطاع أن يخلق بصمة فنية عصية على التقليد، وأن يرتقي بالأغنية السعودية والخليجية إلى آفاق لم تكن معهودة من قبل.
عندما استمعتُ إلى ذلك المقطع القديم المرسل من صديقي، شعرتُ وكأنني أعود بالزمن إلى مرحلة فنية كانت لا تزال تبحث عن هويتها، عن تلك الشرارة التي ستوقد جذوة الإبداع الحقيقي. ثم أتى طلال، كالنور بعد الظلام، ليضيء سماء الفن بألوان لم نرها من قبل. وما تلاه، وإن حمل بعض الأصوات الجميلة والاجتهادات المقدرة، بقي في نظري تدور في فلك تأثيره الساحر، محاولين الوصول إلى القمة التي اعتلاها، رحمه الله، منذ بزوغ نجمه، وحتى اليوم رغم وفاته التي مرت عليها خمسة وعشرين عام.
كان جدالي مع صديقي عاليًا حد العنف، نعم، ولكنه كان نابعًا من شغف حقيقي وإيمان راسخ. كنتُ أرى في كلماتي دفاعًا عن عبقرية فنية لا تقبل القسمة على اثنين. ومع كل حجة أوردتها، ومع كل مقارنة بين فن طلال وما سبقه وما تلاه، بدأت ألمس شيئًا من التردد في صوت صديقي. بدأ يعيد تقييم تلك الحقبة الفنية التي سبقت طلال، ربما لأول مرة بعين ناقدة تقارنها بالمعيار الذهبي الذي أرساه فناننا الخالد. وفي نهاية المطاف، وبعد سجال حاد ومستفيض، شعرتُ بأن قناعتي قد بدأت تتسرب إلى قلب صديقي وعقله. لم يعد يعترض بنفس الحدَّة، وبدأت تظهر في كلماته نبرة اعتراف بعظمة طلال وتأثيره الاستثنائي. ربما لم يعلنها صراحةً في تلك اللحظة، لكنني شعرتُ بأن بذور يقيني قد غُرست في تربة تفكيره.
طلال مداح -يا قوم- ليس مجرد اسم في سجلات الفن، بل هو علامة فارقة، هو نقطة تحول جذرية. وما قبله كان بمثابة التمهيد، وما بعده ظل يستلهم من عبقريته. لقد كان وسيظل الصوت الذي يمثل قمة الإبداع والأصالة في عالم الأغنية. وصديقي، وإن بدأ النقاش معترضًا ، فقد أدرك في نهاية المطاف، ربما بعد طول جدال، أن الحق كان بجانبي: لا فن حقيقي قبل وبعد صوت الأرض، طلال مداح .