الأسس الفكرية والتطبيقات العملية في السياق البشري ..

بقلم / أ.د.تركي بن عبدالمحسن بن عبيد
--------------------------------------
تُعد العلوم الإنسانية فرعًا معرفيًا يركز على دراسة التجربة البشرية بأبعادها الثقافية، الاجتماعية، التاريخية، والنفسية، مستخدمة مناهج نقدية وتحليلية لفهم القيم والسلوكيات الإنسانية. مع التقدم السريع في التكنولوجيا والتحولات الاجتماعية، شهدت العلوم الإنسانية تطورات منهجية وفكرية أدت إلى تبلور تكمنات (افتراضات أساسية) جديدة تشكل أساسًا مركزيًا لهذه العلوم. هذه التكمنات ليست مجرد أفكار نظرية، بل تتجلى في تطبيقات عملية تؤثر على المجتمع والسياسات والثقافة. يهدف هذا المقال إلى استعراض التكمنات الحديثة في العلوم الإنسانية، مع تقديم أمثلة عملية توضح تأثيرها في السياق البشري، مع التركيز على التعددية الثقافية، التداخل البيني، الهوية، التكنولوجيا، الاستدامة، ونقد الموضوعية ..
التكمنات الحديثة وتطبيقاتها العملية ..
1. التعددية الثقافية والنسبية الثقافية أحد أبرز التكمنات الحديثة هو الاعتراف بأن القيم والمعايير الثقافية نسبية وتتأثر بالسياقات الاجتماعية والتاريخية. هذا التكمن يرفض المركزية الثقافية (مثل المركزية الغربية) ويدعو إلى فهم الثقافات من منظور داخلي. ..
- مثال عملي: دراسات الأنثروبولوجيا حول الشعوب الأصلية، مثل أبحاث كايلا بيغز حول شعوب السامي في شمال أوروبا، تُظهر كيف تُستخدم المناهج التأملية لفهم الممارسات الثقافية (مثل تربية الرنة) دون فرض إطار خارجي. هذا النهج يساهم في صياغة سياسات ثقافية تحترم التنوع، مثل حماية الحقوق الثقافية للشعوب الأصلية، مما يعزز العدالة الاجتماعية ..
2. التداخل البيني
يفترض هذا التكمن أن فهم الظواهر البشرية يتطلب نهجًا متعدد التخصصات يجمع بين الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، وحتى العلوم الطبيعية.
- مثال عملي: مشروع "الإنسانيات الطبية" يدمج علم النفس والأدب لدراسة تجربة المرض. على سبيل المثال، أعمال ريتا تشارون في الطب السردي (narrative medicine) تُظهر كيف يساعد السرد القصصي في تحسين العلاقة بين الأطباء والمرضى، مما يعزز التعاطف والكفاءة في الرعاية الصحية ..
3. التركيز على الهوي والذاتية يرى هذا التكمن أن الهوية (الجندر، العرق، الطبقة) ليست ثابتة بل متغيرة ومشكلة اجتماعيًا.
- مثال عملي: أبحاث كيمبرلي كرينشو حول التقاطعية تُحلل كيف تتشابك العوامل مثل العرق والجنس في تشكيل تجارب التمييز، كما في دراسات النساء السود في أماكن العمل. هذه الأبحاث تُستخدم لتطوير سياسات مكافحة التمييز، مما يعزز العدالة في بيئات العمل.
4. التأثير التكنولوجي والرقمنة
يفترض هذا التكمن أن التكنولوجيا، خاصة الذكاء الاصطناعي والإعلام الرقمي، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التجربة البشرية ..
- مثال عملي: مشاريع الإنسانيات الرقمية، مثل "Google Books Ngram Viewer"، تُحلل النصوص الأدبية باستخدام الذكاء الاصطناعي لفهم التحولات الثقافية عبر الزمن. كما يُظهر استخدام أدوات مثل Pundit، التي تتيح للباحثين مشاركة الحواشي والملاحظات، كيف تسهم التكنولوجيا في تعزيز التعاون العلمي وتنظيم المعلومات. هذه الأدوات تُستخدم لفهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على السلوك البشري.[
5. الاستدامة والأخلاق البيئية
يؤكد هذا التكمن على أهمية العلاقة بين الإنسان والبيئة في ظل التحديات البيئية.
- مثال عملي: دراسات دونا هاراواي حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة في سياق التغير المناخي تُظهر كيف تُشكل الثقافات المحلية علاقتها بالبيئة، كما في مناطق الأمازون. هذه الدراسات تُستخدم لتطوير سياسات بيئية مستدامة بالتعاون مع المجتمعات الأصلية ..
6. نقد الموضوعية
يشكك هذا التكمن في إمكانية تحقيق الموضوعية الكاملة في العلوم الإنسانية، نظرًا لأن الباحث جزء من الظاهرة المدروسة ..
- مثال عملي: أعمال إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق" نقدت الروايات التاريخية الغربية، مما ألهم إعادة كتابة التاريخ من منظور الشعوب المستعمرة. هذا النهج أثر على المناهج التعليمية، مما عزز فهمًا أكثر عدالة للتاريخ البشري.
وختامًا ..تُظهر التكمنات الحديثة في العلوم الإنسانية تحولًا نحو نهج أكثر شمولية وتكاملًا لفهم التجربة البشرية .. من خلال التعددية الثقافية، التداخل البيني، التركيز على الهوية، التأثير التكنولوجي، الاستدامة، ونقد الموضوعية، تُسهم هذه العلوم في معالجة التحديات المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية، الرعاية الصحية، والاستدامة البيئية. الأمثلة العملية، مثل أبحاث التقاطعية والإنسانيات الرقمية، تُبرز كيف تُترجم هذه التكمنات إلى تطبيقات ملموسة تؤثر إيجابيًا على المجتمع. مع استمرار التطور التكنولوجي والاجتماعي، ستظل العلوم الإنسانية حيوية في تشكيل مستقبل يحترم التنوع ويعزز الفهم العميق للإنسان .