تَبَرُّعُ وَلِيِّ العَهْدِ بِالدَّمِ… حَيَاةٌ تُمْنَحُ، وَقُدْوَةٌ تُسْتَلْهَمُ

بقلم: حسن بن محمد المباركي
———————————
في لحظة تتزاحم فيها الهموم، وتتعدد فيها الاحتياجات، وتضيق فيها السبل بأناسٍ يبحثون عن قبس نورٍ، يعيد إليهم ما أوشكت الحياة أن تسلبه، يطل علينا مشهد إنساني يفيض بالمعاني، ويدعو إلى التباهي، مشهد يكتب بالدم لا بالحبر، ويترجم بالعطاء لا بالقول، ويؤكد على أن السمو الإنساني للمسؤول لا يُقاس إلا بالأفعال الصادقة التي توضح رسالته الإنسانية، وتترك أثرًا طيبًا في قلوب الناس.
إن العظمة الحقيقية لا تكمن في كثرة الأوامر والتوجيهات، بل في القدوة التي تُترجم إلى فعل حيّ، يتناقله الناس بقلوبٍ مملوءةٍ بالاعتزاز والعرفان، وألسنةٍ ناطقةٍ بالشكر والامتنان، ونفوسٍ عامرةٍ بالعطاء والإحسان.
ومن هنا انطلقت حملة التبرع بالدم، التي قادها صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله، لتتحول إلى مشروع حياةٍ يفتح أبواب الأمل، ويرسم على وجوه المرضى ابتسامة لم تكن لتولد لولا قطرة دمٍ سخيةٍ، تدفقت من عروق الكرم والقيادة، لتستقر في جسد المحتاج.
ولعل أجمل ما في هذه الحملة، أنها لم تكن دعوة نظرية تقف عند حدود القول، بل كانت قدوة عملية تسبق الألسنة بالأفعال، حيث بادر سمو ولي العهد نفسه إلى التبرع بالدم، في موقف تاريخي سيبقى ماثلًا في ذاكرة الشعب، وراسخًا في قلب الوطن، يبرهن على أن القادة العِظام هم أول من يطرق أبواب العطاء، وأسبق من يترجم معاني التضامن والسخاء؛ وعندئذٍ نقول: إن الكلمة حين تُقرَن بالفعل، تصبح أنفذ من ألف خطاب، وأبقى من ألف شعار.
وقد ظهر أثر هذه المبادرة المباركة في امراء المناطق، الذين شاركوا مشاركة فعَّالة، مؤكدين على أن العمل الإنساني سلوك متجذر في شرايين القيادة، وأن القدوة حين تصدر من القمة فإنها تُلهم الشعب بكل همة، وتوقظ في النفوس ما قد ينام من مشاعر التضامن والتكافل.
وهكذا صار التبرع بالدم مسؤولية وطنية يتقاسمها الجميع، ومشروعًا إنسانيًا يعلو فوق كل الفوارق، ويجمع القلوب على كلمة سواء.
وليس أثر التبرع بالدم محصورًا في إنقاذ أرواحٍ تتنفس من جديد بعد معاناة، بل هو في جوهره رسالة تتجاوز أَسِرَّةَ المستشفيات وجدران غرف العمليات، لتبلغ قلوب أُسَرٍ كانت بين اليأس والرجاء، فإذا بها تستعيد أنفاس الأمل.
إن للمتبرع نصيبًا من هذا الخير، إذ يعود عليه العطاء بصحة ونشاط، فتنشط دورته الدموية، ويُقلل تبرعه من المخاطر الصحية، ويمنحه شعورًا عميقًا بالرضا الإنساني، كأنَّ واقعه يقول له:(( إنك حين تبرعت بدمك للمرضى، فإنك أعطيت نفسك حياةً أبهى، وقدمت عملا نبيلا أسمى)). وعندئذٍ تتجلى عظمة التشريع القرآني في قوله تعالى: {وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ} [سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٣٢]
آيةٌ تختصر فلسفة البذل في كلمة، وتُوجز معنى التضامن في جملة.
إن حملة التبرع بالدم التي يقودها ولي العهد –أيّده الله –ليست حدثًا عابرًا يُذكر في نشرات الأخبار، بل هي رسالةٌ إنسانية عميقة المعنى، ودعوةٌ مفتوحة لكل مواطنٍ ومقيم، حين يجعلون من التبرع بالدم عادةً مستمرة، ينساب كما ينساب الدم في العروق، لتصبح كلُّ قطرة تُعطى بذرةَ أملٍ تُزرع، وكلُّ ذراع تُمدّ بالعطاء تكون جسرًا يصل بين حياة وحياة.
وما أجمل أن نرى في وطننا الحبيب هذه الصورة البهية! حين نرى قادةً يضربون أروع الأمثلة، وشعبًا يستجيب بقلوبٍ طيبة مفعمة، فتتعانق الإرادة من القمة بالاستجابة في المجتمع، ليولد مشهدٌ إنساني قلّ نظيره.
ولعل أعظم ما يميز هذه الحملة أنها تعيد صياغة مفهوم الإنسانية في أوضح معانيها، وتُرسي دعائم البذل في أسمى مقاصدها؛ فالتبرع بالدم ليس مجرد عملٍ طبي أو إجراءٍ صحي، بل هو إعلان صادق بأن الإنسان للإنسان سندٌ وعضد.
وما أجمل أن نرى وطنًا يحوّل إنسانيته إلى واقع ملموس، وقيادةً تجعل من نفسها جسرًا للخير، وقلوبًا لا تنبض إلا بالحب والعطاء.
إننا اليوم أمام مدرسة قيادية حيّة، لا تُعلَّم بالكلمات ولا بالمناهج والعبارات، بل بالمواقف والأفعال والمبادرات، إنها مدرسةٌ مؤسسُها رجلٌ عظيمٌ في الكرم والعطاء، ووارثُها قدوةٌ في البذل والسخاء، فسمو ولي العهد لم يكتفِ بالوعود، بل ترجمها إلى أفعالٍ تكتب بماء الذهب، وتسري في وجدان الشعب، كما يسري الدم في الجسد.
ومن أروع صور الوفاء لهذه المبادرة أن يقتدي بها كل مواطن، ليكون كل فردٍ شعاعًا يضيء صرح التكافل، وقطرةً تنساب في نهر العطاء.
وإذا كان التبرع بالدم ينقذ حياةً واحدةً في ظاهر الأمر، فإن أثره يتجاوز ذلك، إذ يعيد البسمة لعائلةٍ كاملة، ويزرع الأمل في مجتمع بأسره، ويفتح أبواب الدعاء والشكر من قلوب لا تعرف المتبرع، لكنها ترفع أكفّها للسماء، سائلة الله أن يجزيه خير الجزاء.
فما أعظمها من تجارة مع الله، وما أجملها من صورة يظهر فيها التلاحم الوطني والإيمان العميق بالقيم الإنسانية.
فلتكن هذه الحملة المباركة منطلقًا لوعيٍ دائمٍ لا موسمي، ولنجعلها بداية عهد جديد مع العطاء الإنساني، لا محطةً مؤقتة تنتهي بانتهاء المناسبة، ولنجعل من دمائنا جسورًا للحياة، ومن عطائنا أسبابًا للبقاء، ولنجعل من حبنا للوطن، ومن استجابتنا للقيادة، شاهدًا خالدًا على أننا أمة تعطي بقدر ما تحب، وتبذل بقدر ما تؤمن، وتضحي بقدر ما تعتز بقيمها.
سائلين الله أن يحفظ قيادتنا الرشيدة، وأن يبارك في جهودها المخلصة، وأن يجزي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان– الذي جسّد أروع معاني القدوة–خيرَ الجزاء وأوفاه، وأن يديم عليه الصحة والعافية والمعافاة، كما نسأله تعالى أن يثيب كل متبرعٍ بدمه، وأن يجعل عمله صدقة جارية في حياته وبعد مماته، وذخرًا في صحيفته وأعماله، وأن يضاعف لهم الأجر بما أحيا الله به من أنفس، وما أنقذ به من أرواح، وأن يجعل هذا التبرع سببًا للرحمة والبركة في حياتهم، وأن يظل وطننا الغالي شامخًا بإنسانيته، نابضًا بعطائه، رائدًا في الخير كما هو رائد في البناء والنماء.