|

كبسولة وعي.. الآلة الصامتة: كيف بنى المركز الوطني بنية الاستثمار الاجتماعي في المملكة؟

الكاتب : الحدث 2025-06-29 01:02:33


في عمق التحول الذي يشهده القطاع غير الربحي في المملكة، لم يكن الصوت الأعلى هو الأكثر تأثيرًا، بل كانت هناك آلة صامتة تعمل بإصرار، تؤسس وتبني، وتُمهّد الطريق نحو استثمار اجتماعي حقيقي. هذه الآلة هي المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، الذي لم يكتفِ بإعلان التغيير، بل وضع أدواته، وهندس تفاصيله، وراقب أثره.
منذ تأسيسه، لم يتعامل المركز مع الاستثمار الاجتماعي كفكرة مجردة، بل بوصفه نظامًا متكاملًا يحتاج إلى بنية تحتية، وأدلة إجرائية، ومنصات ذكية، ومؤشرات دقيقة. وهكذا بدأ العمل بهدوء، من العمق إلى السطح، من الداخل إلى الخارج.
أطلق المركز مجموعة من الأدلة الإجرائية التي غيّرت فهم الجمعيات للعمل التنموي، ووجهتها نحو التفكير بالاستثمار لا بالاحتياج. هذه الأدلة لم تكن مجرد أوراق، بل خارطة طريق لفِرق العمل، وإطار ذهني جديد يُعيد تعريف النجاح والتأثير.
أما منصة قياس الأثر الاجتماعي، فهي قصة أخرى من قصص الابتكار المؤسسي، حيث وفرت أكثر من 120 مؤشرًا وطنيًا لقياس الأثر غير المالي للمشاريع. لم تعد الجمعيات تقيس إنجازاتها بعدد المستفيدين فقط، بل بمقدار التحوّل الذي أحدثته في حياة الناس.
وفي جانب التمويل، قدّم المركز نموذج العائد الاجتماعي على الاستثمار (SROI)، وهو أداة متقدمة تتيح للجهات الخيرية احتساب القيمة الاجتماعية الناتجة عن كل ريال يتم استثماره. هذا النموذج أعاد تعريف الكفاءة المالية، وربط المال بالمعنى، والتمويل بالأثر.
ومن خلال توقيع شراكات مع 12 جهة من القطاع الخاص، نقل المركز فكرة الاستثمار التشاركي من مجرد شعار إلى ممارسة حقيقية. لم يعد القطاع الخاص متفرجًا، بل شريكًا استراتيجيًا في تصميم وتنفيذ الحلول التنموية.
لقد أنتج هذا الحراك مصطلحات جديدة، ومفاهيم غير مألوفة أصبحت اليوم جزءًا من لغة الجمعيات: "العائد الاجتماعي"، "تقييم الأثر"، "الوحدات الاستثمارية"، "التمويل القائم على النتائج"... وكلها دلائل على ولادة ثقافة جديدة.
إن ما فعله المركز الوطني لم يكن ضجيجًا إعلاميًا، بل كان تأسيسًا معرفيًا ومنهجيًا، قاد إلى تحوّل هادئ لكنه عميق، وخلق قطاعًا غير ربحي أكثر نضجًا، وأقرب إلى الرؤية الوطنية 2030.
وقد آن الأوان للبناء على هذه المنجزات، وتسريعها، وتوسيعها ، ليكون الاستثمار الاجتماعي ليس استثناءً... بل هو القاعدة.
وهنا، تبدأ كبسولة وعي جديدة، نطرح فيها تساؤلًا محوريًا للمقال القادم:
كيف غيّر المركز الوطني مفهوم العطاء في المملكة؟ وكيف ساهم في التحوّل من التبرع إلى الأثر؟
تأملاتنا المقبلة ستكون بعنوان: *التحوّل من التبرع إلى الأثر: كيف غيّر المركز مفهوم العطاء في المملكة؟*، لنواصل معًا هذه الرحلة الفكرية الهادئة نحو قطاع غير ربحي أكثر وعيًا وتأثيرًا.
 
بقلم: حارث بن علي العسيري
الباحث في مجال الاستثمار الاجتماعي