الذنب الزائف

غادة شوعي .. أخصائية نفسية وأخصائية القياس النفسي والمهني والأسري
قد يوقظ الإنسان في جوف الليل سؤالٌ لاذع: «هل كنتُ أصلَ الحزن الذي يعصف بمن حولي؟»، فينهض مثقلاً، كأنه يحمل الكون على كتفٍ واحدة. هكذا يعمل الذنب الزائف؛ يضع صاحبه على كرسيّ الاتهام دون قاضٍ أو شهود، ويُلبسه ثوب الجاني حتى وهو الضحية أو مجرد شاهد بريء.
لكن الله سبحانه طمأن عباده قبل أن تداهمهم هذه الوساوس، فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ – البقرة:286
آيةٌ تفتح باب الطمأنينة والثقة بعدل الله: لست مُكلَّفًا بما يتجاوز حدودك، فكيف تُدين نفسك بما لا تملك؟
هذه المقالة تسير بصاحبها خطوة بخطوة نحو الفهم، التسمية، ثم التعافي من هذا الشعور المؤلم.
الذنب الزائف… وبداياته الخفية
هو شعورٌ بالذنب لا يستند إلى منطقٍ شرعيٍّ أو مسؤوليةٍ واقعية، يتضخّم حتى يُحمِّل الإنسان أوزارًا ليست من شأنه، أو يعظِّم خطأه فوق طاقته.
وغالبًا ما يبدأ في الطفولة داخل بيئة تُقدّس التضحية وتُجرِّم الخطأ الطبيعي، فينشأ الفرد معتقدًا أن أي خللٍ يحدث حوله سببه هو.
شكال الذنب الزائف… خمسة أقنعة لجرحٍ واحد
لكي نفهم الذنب الزائف، علينا أن نميّز بين أنواعه. إليك أبرز خمسة وجوه له، تتخفى في سلوكيات ومشاعر تبدو عادية:
1. ذنب الناجي (Survivor’s Guilt)
هو الإحساس العميق بالذنب لأنك بقيت حيًا أو بخير بينما آخرون تأذوا أو رحلوا.
📌 : شاب نجا من حادث مروع توفي فيه أصدقاؤه. رغم مرور السنوات، لا يزال يشعر أن ضحكته خيانة، ويعيش حياته كمن ينتظر عقوبة مؤجلة.
2. ذنب المسؤولية المفرطة (Hyper-responsibility Guilt)
نوع من الذنب يجعل الشخص يشعر بأنه سبب كل ما يحصل حوله من ألم أو فشل، حتى لو لم يكن له علاقة مباشرة.
3. ذنب الامتياز (Privilege Guilt)
يظهر عندما يشعر الفرد بالعار لأنه يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون، سواء مال، صحة، علم، أو حتى عائلة مستقرة.
4. الذنب الوجودي (Existential Guilt)
إحساس عميق بعدم الاستحقاق لنعمة الوجود، وكأن الحياة نفسها دينٌ ثقيل يجب دفعه.
5. الذنب الديني المشوّه
ينشأ من فهم قاسٍ للدين يجعل الإنسان يشعر أنه مذنب دائمًا، حتى عندما يُقصّر عن غير قصد.
آثاره على النفس والجسد ..
1- قلقٌ دائم وتوترٌ مُفرِط.
2- أرقٌ وكوابيسُ توقظك بصرخة «أنا السبب».
3- اهتزاز تقدير الذات.
4- علاقاتٌ غير متوازنة قائمة على الاعتذار المستمر.
5- ميلٌ للاكتئاب أو الاحتراق النفسي.
ومن طريق التعاف
1. التسمية والاعتراف
> ما يُسمّى يُروَّض.
الاعتراف بأن هذا الذنب غير واقعي هو الخطوة الأولى نحو التحرر.
2. إعادة البناء المعرفي (CBT)
الفكرة المشوَّهة: «لو كنتُ أفضل، لما حزنوا».
التعديل الواقعي: «مشاعر الناس ملك لهم، ولا أحد يسيطر على أقدار غيره».
>قال النبي ﷺ:«إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» – أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
3. تمرين الميزان البصري
رسم ميزانٍ بسيط: كفة للحقائق، وأخرى للاتهامات الذاتية. سيكشف ذلك الفارق بوضوح.
4. حدود الرحمة
تعلم قول «لا استطيع » يحمي من الاحتراق. الرحمة تبدأ من النفس.
> ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ – الحج:78
5. الفعل البنّاء بدل جلد الذات
اختيار عمل خيري أسبوعي يعيد المعنى للحياة دون تحميل النفس ما لا تحتمل.
6. عناية متكاملة بالجسد والعقل
رياضةٌ خفيفة، تنفسٌ عميق، كتابة يومية للأشياء الإيجابية.
7. طلب الدعم النفسي
الجمع بين العلاج السلوكي والإرشاد الديني يُعيد الاتزان الداخلي.
وأخيرا الروح لا تُعاقبك… الدين رحمة لا سجن
> ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ – الأنعام:164
الله لا يُحاسب العبد بما ليس له به طاقة، ولا يُريد لأحد أن يعيش في جحيم داخلي مزيف.
فضميرٌ رحيم لا جلادٌ داخلي
فالذنب شعورٌ نبيل إذا وُضع في موضعه الصحيح، لكنه يصبح عذابًا حين يتجاوز حدَّه.
قال النبي ﷺ:
> «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» – متفق عليه
وأنت أول من تستحق أن ترحم نفسك.
وتذكر: أنت لستَ قاضيًا على الكون. لستَ من يوزع الأقدار أو يتحكم بها. أنتَ إنسان خُلقت لتضيف، لا لتعاقب نفسك على ما لا تملكه.