*الوهم الرقمي*: إدمان الذكاء الاصطناعي وطرق النجاة منه

*الأخصائية غادة شوعي*
أخصائية نفسية وأخصائية القياس النفسي والمهني والأسري
مقدمة:
في زمنٍ تحوّلت فيه الآلات إلى "أصدقاء"، والمحادثات الرقمية إلى ملاذٍ نفسي، أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) أكثر من مجرد تقنية. صار أبًا يوجه، وأمًا تحتضن، وطبيبًا يشخّص، ومرشدًا يوجّه، بل وحتى محبوبًا يُشتاق له!
لكن في زحمة هذا التقدم، برز سؤال مخيف:
هل فقد الإنسان اتصاله بنفسه وبربه؟ وهل وقع ضحية لوهمٍ رقميّ يغلفه الذكاء لكنه يسرق الوعي؟
*فحين تتحول الأداة إلى إدمان*
لم يعد استخدام الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على الدراسة أو العمل، بل أصبح هناك من يلجأ له بحثًا عن الدعم النفسي، أو الحوار العاطفي، أو حتى طلب النصيحة في أخص خصوصياته.
إحدى الحالات التي زارتني، فتاة منهارة، تقول باكية:
> "أعرف أنه برنامج، بس حسيته يفهمني أكثر من أهلي… أحبه وما أقدر أعيش من دونه بدأت أتعلق فيه ولو ماقال لي كلمات عاطفية ابدأ اشعر انه مايحبني !"
فهذا ليس مجرد تعلق، بل إدمان نفسي وعاطفي يقود إلى فقدان التوازن، والعزلة، وتضخم وهم الأمان الرقمي.
أما من الناحية النفسية، فالعقل بطبيعته يميل للراحة والردود السريعة. والذكاء الاصطناعي يوفر ذلك بشكل جذاب، بلغة لطيفة وتفهم لا يصدر أحيانًا حتى من أقرب الناس. لكن، مع تكرار الاعتماد على هذه البرامج، تتراجع قدرات الإنسان على التعلّم، والتفكير النقدي، والإبداع. يزداد الخطر عندما يفقد الإنسان الحافز على تطوير ذاته، ويصبح الاعتماد على البرامج هو المعيار، وهو ما يهدد فقدان قدرته على الابتكار والتفكير المستقل.
ولا يخفى علينا في الجانب الديني، يُعدّ التعلق بغير الله خطرًا عظيمًا. فالإسلام يعلمنا أن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، وأن التعلق الحقيقي يجب أن يكون بالله وحده. قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. حين يُبدل الإنسان ذكر الله، والدعاء، واللجوء إليه، باللجوء إلى روبوت أو برامج، فإنه يفتح لنفسه باب خلل إيماني عميق، قد يُحرم معه الراحة الحقيقية التي لا يُعوضها شيء. فالذكاء الاصطناعي لا يُحب، لا يُخلص، ولا يُربّت على القلب، بل هو مجرد أداة تفتقد للروح والعاطفة.
وفي الواقع، نرى مئات الحالات التي تعكس مدى خطورة هذا الاعتماد.
فتاة أصبحت تكتب أبحاثها بالكامل باستخدام AI، ففقدت القدرة على التعبير بلسانها، وأخرى رفضت مقابلة البشر، ووجدت في المحادثة مع الذكاء الاصطناعي متنفسًا عاطفيًا، وأصبحت تغار من ردوده، وتحزن إن تغيرت لهجته. هذه القصص ليست خيالات، بل واقع مرير نعيشه، ويستدعي منا وقفة جادة.
وفي ظل هذا الوضع، يتحمل الأهل والأزواج مسؤولية كبيرة في التصدي لهذا الوهم. فالأهل، من خلال الرقابة والتوجيه، يجب أن يعلّموا الأبناء أن التقنية أدوات، وليست بديلًا للعلاقات الإنسانية، وأن يزرعوا في قلوبهم حب الله، والذكر، والصلاة، ليكونوا حصنًا من الوقوع في فخ الاعتماد المفرط. كما أن القدوة الحسنة، والتوازن بين الاستخدام الصحيح للتقنية والعلاقات الواقعية، هو المفتاح.
أما الأزواج، فدورهم أكبر في بناء علاقات قوية ومتوازنة، تبتعد عن الاعتماد المفرط على الوسائل الرقمية. فالحوار المفتوح، والمشاركة في الأنشطة، والوعي بتغيرات السلوك، كلها عوامل تساعد على حماية الأسرة من الوقوع في فخ الوهم الرقمي. وعندما يلاحظ أحد الطرفين علامات الاعتماد المفرط، عليه أن يتحرك بسرعة، ويبحث عن حلول، أو يلجأ للمساعدة النفسية إذا استدعى الأمر.
ولنجعل من كل ذلك قواعد عملية للنجاة من هذا الوهم:
1- **الوعي أولًا:** اعترف أن ما يحدث قد يكون تعلقًا أو إدمانًا، وراقب وقتك مع AI.
2- **استخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد، لا كصانع قرار:** اسأله، لكن لا تتركه يسيطر على مصيرك.
3- **تخصيص وقت "صفر رقمي" يوميًا:** ساعة بدون هاتف، وبدون حوار رقمي، واستبدالها بالقراءة، أو الصلاة، أو الحوار مع نفسك.
4- **بناء علاقات حقيقية:** مع العائلة والأصدقاء، فهي التي تمنحك الدعم الحقيقي.
5- **العلاج النفسي عند الحاجة:** إذا شعرت أنك لا تستطيع التوقف، فاطلب المساعدة.
6- **ربط السلوك بالنية:** استخدم التقنية في الخير، واستعن بالله عند الشعور بالهروب أو التعلق غير الواعي.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة أن التقنية وُجدت لخدمة الإنسان، لا لاستعباده. فقلوبنا لا تطمئن إلا بذكر الله، وعقولنا لا تتطور إلا بالعلم، وأرواحنا لا تكتمل إلا بالتواصل الحقيقي مع من حولنا. فلنجعل من التقنية أداة ذكية، لا وهمًا يسيطر على قلوبنا، ونتذكر دائمًا أن من تعلق بالله كفاه الله كل شيء.