|

ابن القرية (4)

الكاتب : الحدث 2025-05-25 11:34:26

المستشار: محمد بن سعيد أبوهتله

حين كانت مفاتيح الكرم مشدودة في حزام الأم، والمِخوال حارسًا لكرامة الضيف.

في زمنٍ تتسارع فيه الحياة وتتزاحم فيه الأولويات، ننسى أحيانًا أن أعظم البطولات لم تكن يومًا تُروى في كتب التاريخ، بل تنبض في تفاصيل الحياة اليومية… في “حزابة” صغيرة خُبئت في مِخوال الطابق الأوسط، أو في يد امرأة أشعلت النار ، وكان قلقها أشد من لهبها.

في هذا المقال من سلسلة ابن القرية، نغوص في ذاكرة الأم الجنوبية، حارسة البيت وسيدة الموقف، حينما يُطرق الباب في لحظةٍ عابرة بلا موعد ولا مؤونة. يا الله إنه ضيف جاءنا فجأة . حيا الله الضيف (أرحب). وهنا سأتحدث بالألفاظ القروية القديمة تذكيرًا بها وحفاظاً عليها من الاندثار ، فهي جزء من التراث الثقافي الذي يجب الحفاظ عليه وتجديده  كما هو مستهدف في رؤية سمو ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان (حفظه الله ).
وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن جانبٍ من معاناة الأمهات في الأزمنة الماضية، وهذا لا يعني أن الآباء لم يعانوا، بل سنتناول معاناتهم لاحقًا بإذن الله.
في هذا المقال، أتطرق لما  وردني من بعض القراء الكرام، الذين ذكّروني بمصطلح “الحزابة”.
و”الحزابة” هي شكل من أشكال التوفير الذكي الذي كانت تتولاه الأم، إذ تحتفظ بجزء يسير من الدقيق ، أو السمن ، أو القهوة ، أو التمر، وتمنع استخدامه مهما اشتدت الحاجة. يُحفظ هذا الزاد في “المِخوال” – وهو مستودع في الدور الأوسط غالبًا – ويُقفل عليه بإحكام، والمفتاح لا يُفارق حزام المرأة، كأنه تعويذة لحماية الكرم والكرامة.
“المفتاح كان مربوطًا في حزام الأم… ليس فقط لحماية المؤونة، بل لحماية ماء الوجه.”
في ذلك الزمن، لم تكن هناك مطاعم ولا فنادق، وكان المسافرون يتوقفون عند أي بيت في القرية، فيُفتح لهم الباب بلا تردد، ويُبسط لهم الطعام بلا انتظار.
وكان من أهم أدوار الأم في تلك المرحلة أن تُبقي شيئًا للطوارئ، لا لضيوفها فحسب، بل أحيانًا لضيوف جيرانها أيضًا. ولذا، كانت “الحزابة” محرّمة تمامًا على الاستخدام العائلي، ويُنظر إلى من يقترب منها كمن يخرق حرمة عرفٍ مقدس.
وفي مشهد يتكرر كثيرًا، قد لا تملك الأسرة شيئًا لتُقدّمه، خاصة إن جاء الضيف قبيل الغروب. حينها، تنظر نساء القرية العاملات في الحقول الزراعية إلى البيت الذي استقبل الضيف، ويعلمن أن الموقف حرج، فيُبادرن بإرسال ما لديهن من “الحزابة”، في تجلٍ صادق للتكافل المجتمعي، الذي لم تكن له أسماء آنذاك، بل كان “نخوة” و”مروءة” و”أخوّة”.
“في القرية، لا يُترك بيت يُضيّف إلا ويُضيَّف معه كل قلبٍ نبيل.”
تروي لي إحدى كبيرات السن موقفًا من تلك الأيام، فقالت:
“جاءنا ضيوف وقت المغرب، ولم يكن لدينا شيء. ذهبتُ إلى جارتنا أطلب دقيقًا وسمنًا وحطبًا. فقالت: خذي الحطب، أشعلي النار، وسأبحث لكِ عن الباقي. جلستُ أرقب الطريق، أترقب ضوء فانوس قادم يحفظ لنا ماء الوجه أمام ضيفٍ يجلس يرقب عشاءه بعد تعب الرحلة وجوعه الشديد. وبعد نحو ساعة، رأيتُ الضوء، فاستبشرت خيرًا وجاءت جارتنا وهي تحمل دقيقًا وسمنًا. شكرتها، وطلبتُ منها أن تتعشى معنا، فقالت: (يالله، يسدّ ضيفكم). 
ثم اعتذرت عن التأخير، لأنها طرقت أبواب القرية كلها، ولم تجد السمن إلا في قرية مجاورة.”
وهنا قد يتساءل سائل: وأين دور الرجال؟
الرجل كان يُرحّب بالضيف، ويؤانسه، ويُخفي عنه سبب تأخر الطعام، ويجالسه كواجب ضيافة. أما تدبير شؤون الضيف من إعداد وتوفير، فهو دور النساء، وهن كنّ على قدر عالٍ من الحنكة والحكمة والمسؤولية.
المرأة كانت تعرف دورها بدقة، تساند زوجها، ويعتمد عليها، ويثق بها، وكانت لها كلمتها وهيبتها ومكانتها المرموقة داخل القرية بأسرها.
ومن أجمل ما يميز الحياة القروية القديمة أن رجال القرية كانوا ينظرون إلى زوجة رفيقهم كأخت، ونساء القرية ينظرن إلى رجال القرية كإخوة، في مجتمع مترابط يسوده الاحترام والثقة.
“القرية لم تكن مباني، بل عائلة كبيرة، تتوزع بين البيوت وتلتقي عند المواقف.”
كانت القرية، مهما كبر حجمها، بيتًا واحدًا لنا نحن الأطفال. لم تكن الأبواب تُغلق نهارًا، فكنا ننتقل بين جميع البيوت بلا استثناء، نلعب ونلهو بين الحقول الزراعية. وإذا جُعنا، دخلنا أي بيت، وذهبنا إلى “الجونة” – وهي وعاء من الخصف يُوضع فيه الخبز – نفتحها ونبحث عن شيء نأكله، فإن لم نجد، ننتقل إلى البيت الآخر، وهكذا.
لم يكن أحد يستنكر ذلك، فكان جميع نساء القرية هن “أمهاتنا”، وجميع رجالها “آباؤنا”. وإن أخطأنا، يُؤدبنا أقرب رجل، ويعاملنا كما يعامل ابنه.
كم نشتاق إلى تلك الأيام!
كم نتألم حين نمرُّ على معالمها وقد تهدمت، ومزارعها قد بادت. لقد جاءت الحضارة والتطور، لكنها أطفأت بعضًا من رونق القرى، وسلبت شيئًا من روحها.
رحم الله من فقدنا من آبائنا وأمهاتنا، ومتّع من بقي منهم بالعافية، فقد تركوا لنا إرثًا من القيم، لا يُحفظ في المِخوال، بل يحفظ في الوجدان.