تصاريح الحج قبل الإسلام

بقلم : المستشار محمد بن سعيد أبوهتله
------------------------------------
حين أتمّ خليل الله إبراهيم عليه السلام بناء البيت الحرام، أمره الله عز وجل بالحج، فكانت هذه الشعيرة موروثًا إيمانيًا عظيمًا للأديان قبل الإسلام و توارثته العرب، حتى مع انحرافهم عن التوحيد ووقوعهم في الوثنية ..
ورغم دخول الشرك والبدع إلى معتقداتهم، فقد احتفظ العرب ببعض مظاهر الحج، إلا أنها لم تسلم من التحريف والتبديل، فغابت مقاصدها، وظهرت طقوس غريبة عن ملة إبراهيم الخالصة ..
لقد عرف العرب قبل الإسلام مفهوم الحج والإحرام، لكنه كان أقرب إلى صورة موروثة منحرفة عن الحنيفية، اختلطت بها بدع الجاهلية وموروثاتها القبلية ..
ولم تكن هناك تصاريح رسمية منظمة للحج كما في عصرنا، بل كان الوصول إلى مكة مفتوحًا في إطار الأعراف القبلية والتحالفات، مع ما يصاحب ذلك من خضوع لسطوة قريش وتنظيمها ..
وكان العرب قبل الإسلام يستعدون للحج من (شوال وذو القعدة وذو الحجة)،حيث كانت تُقام أسواق كبرى على طرق الحج، تُعد من أبرز معالم الحياة الدينية والاقتصادية والثقافية في الجاهلية، وكانت بمثابة مراكز استعداد للحج، تجمع بين التجارة والبلاغة والتشاور القبلي، ومنها :
• سوق عكاظ: من 1 إلى 20 من ذي القعدة، قرب الطائف، على طريق الحج اليمني ..
• سوق ذو المجنّة: من 21 إلى 30 من ذي القعدة، شمال الحرم، على طريق الحج الشامي ..
• سوق ذو المجاز: من غرة ذي الحجة حتى يوم التروية (8 ذي الحجة)، شرق مكة، في ديار هذيل، تحت سفح جبال “كُبكب”، على طريق الحج النجدي ..
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، يفيض الناس إلى مزدلفة، استعدادًا ليوم عرفة، بينما كانت لقريش نظرة مختلفة تجاه هذه المناسك، تتجاوز الجانب التعبدي إلى ما يشبه التحكم والتنظيم الحصري ..
وكانت قريش تفرض نوعًا من التنظيم الخاص بالحج، يمكننا - بلغة عصرنا - اعتباره شبيهًا بـ”تصريح الحج”، وقد تمثل هذا في منظومة تُعرف باسم “الحُمس”..
والحُمس هم قريش ومن والاهم من القبائل، وقد سمّوا أنفسهم بذلك لما رأوه في أنفسهم من “حماسة” في الدين، وتعظيم لشعائر الحرم - كما يزعمون ..
وكانوا يميزون أنفسهم عن سائر العرب بعدة أمور، منها :
• الامتناع عن الخروج إلى عرفة، والاكتفاء بالوقوف في مزدلفة، بدعوى أنهم “أهل الحرم” ولا يجوز لهم مغادرته ..
• فرض لباس مخصوص للحج، لا يُسمح لأحد بالطواف إلا به، ويُشترط أن يكون من ثياب أهل مكة، لاعتقادهم أن هذا الثوب “لم يُرتكب به ذنب”، وهو ما جعله في نظرهم طاهرًا ..
وكان هذا اللباس يُعد بمنزلة تصريح رمزي من قريش لأداء الحج ..
ومن لم يُمنح هذا الثوب، كان يُجبر على الطواف عاريًا، في مشهد جسّد ذروة الانحراف عن روح الشعيرة ..
وكان الرجال يتبادلون هذا اللباس فيما بينهم، وكذلك النساء، في ممارسة تنمّ عن احتكار شعيرة الحج وفرض رمزية الطهارة بمفهومهم الخاص ..
أما السعي بين الصفا والمروة، فكان معروفًا عند العرب، تؤديه بعض القبائل مثل الأوس والخزرج، وقد تحرجوا عند دخولهم في الإسلام من أداء هذا النسك؛ إذ كانوا يرونه من بقايا الجاهلية، فأنزل الله تصحيحًا لذلك بقوله تعالى :
﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم﴾
(البقرة: 158)
ومن اللافت أن قريش كانت تنظم الحج إلى حدٍ ما، فتفرز الحجاج في سوق “ذو المجاز”، وتُعنى بالسقاية والرعاية، لكن عدد الحجيج آنذاك كان قليلًا، مما سهّل تلك الإدارة البدائية ،
وهذا قبل الإسلام، وقد أقر العرب بأحقيتها في ذلك.
واليوم، حين أقرت الدولة السعودية - وفقها الله - شرط الحصول على تصريح رسمي للحج، فإنما تفعل ذلك لتنظيم هذه الفريضة بما يتناسب مع الأعداد المليونية الهائلة من الحجاج، وتقديم أفضل خدمة لهم.
فالدولة تهيئ المستشفيات، والمرافق، والخدمات اللوجستية، ومراكز الطوارئ، والإيواء، والتغذية، والأعداد اللازمة من العاملين على تلك الخدمات، بناءً على عدد دقيق ومخطط له، فكيف يُستنكر ذلك من البعض ..؟!
ونحن اليوم نشهد جهودًا جبارة تقوم بها المملكة العربية السعودية في خدمة ضيوف الرحمن، بدءًا من التنظيم المحكم، ومرورًا بالخدمات المتكاملة، وانتهاءً بحسن الاستقبال والتوديع ، إنها خدمات تُسرّ الصديق، وتُغيظ الحاسد والحاقد ..
ولم تقم دولة على مر التاريخ إلى عصرنا الحاضر بمثل هذه القدرة العالية في إدارة الحشود وتقديم الخدمات الرائعة لهم بكرم ضيافة وحسن أداء ..
وفي الختام :
نسأل الله أن يحفظ وطننا، ويُوفق ولاة أمرنا، ويجزي رجال أمننا خير الجزاء، وأن يُعين الحجاج على أداء نُسكهم، ويُعيدهم إلى أهلهم سالمين، مأجورين، مقبولين .