الأملُ الذي ضلّ الطريق ..!

بقلم ـ حسن بن محمد المباركي
……………………
كان صغيرًا يركض نحو الضوء، يحمل في كفَّيه بذورَ الغد، ويُرتِّب أحلامه كما يُرتِّب ألعابَه على الرُّفوف، يضحك كثيرًا، يُحادث الطيور، ويخاطب الغيم، ويسأله عن كلِّ شيء ..
لكن شيئًا ما تغيَّرَ .. لم أعد أراه كثيرًا، وجهُه ما يزال هنا، لكن نظراتِه غائرةٌ في مكانٍ آخر، ضحكتُه محبوسة، صوتُه مختفٍ خلف جدرانٍ صَمَّاء ..
كان الحلمُ يُزهِر في عينيه، أمّا اليوم فَثَمَّ ما ذبُل ..
لم يكن الحديثُ عن الألعابِ الإلكترونيّة جديدًا، ولكنه سيطرق بابًا أخطر، سيطرق بابَ الأملِ المسروقِ من صدور الأبناء ..
لقد تحوّلت هذه الألعابُ من وسائلَ للتسلية إلى عالمٍ بديلٍ، يخطف الوعي، ويُذيب الطموح، ويُعيد تشكيل أحلام الأطفال والمراهقين بعيدًا عن الواقع، وعن ذواتهم الحقيقيّة ..
فكم من ابنٍ كان يحلم أن يصبح طبيبًا، أو مهندسًا، أو مخترعًا ..
فإذا به يحلم اليوم بالوصول إلى "الرّانك الأسطوري"، أو الفوزِ بجلدةٍ نادرة، أو تحقيقِ انتصارٍ في لعبةٍ قتاليّة ..
لم تعد الألعاب الإلكترونية تقتصر على التسلية، بل غزت حتى لغة الأبناء داخل أسرهم، فتراهم يتحدثون بلهجاتٍ افتراضيّة، ومصطلحاتٍ غريبة، واهتماماتٍ تنفصل تدريجيًّا عن محيطهم وواقعهم ومستقبلهم الحقيقيّ، وهنا تتجلى مكامنُ الخطر ..
إنّ اللعبَ في ذاته ليس قضيّةً، بل في اختطافِ الشغف، وفي بناءِ مستقبلٍ وهميٍّ يعيش الأبناءُ تفاصيلَه وهم متكئون على أرائكِ العجزِ والانعزال ..
لقد أصبحت هذه الألعابُ سوقًا يُباع فيها الأملُ بالتقسيط، مقابلَ ساعاتٍ من التحديقِ الصامت، والخمولِ الذهني، والتعلّقِ المُنهِك ..
ومع ذلك، فإننا لا نُعادي التكنولوجيا، ولا نقف ضدّ اللعب حين يكون منضبطًا، بل نحن ضدَّ أن يفقد الجيلُ الجديدُ طموحَه، وأنْ تُختطف أعمارُهم خُلسةً وهم لا يشعرون ..
فنحن مع التوجيهِ لا التقييد، ومع الوعي لا المنعِ الأعمى، ومع المرافقةِ الحكيمةِ التي تشير إلى الطريق دون أن تفرضه ..
أيّها الآباءُ والأمّهات، إنّ أعظم ما نهمل رعايته في أبنائنا هو أملهم الداخلي، لا أداؤهم، ولا سلوكهم، ذلك النبض الذي يُضيء أعماقهم، ويدفعهم إلى الحلم، ويمنحهم الرغبة في أن يكونوا شيئًا ذا قيمة ..
فكونوا قريبين من أبنائكم، وتحدّثوا إليهم، وأنصتوا لهم وشاركوهم، وافتحوا أمامهم نوافذَ جديدةً تُطلّ على مهاراتٍ نوعيّة، واهتماماتٍ سامية، وتجاربَ تصنع معنًى حقيقيًّا للحياة ..
فالأملُ هو النبضُ الذي يُبقي الطفولةَ حيّة، والنافذةُ الأولى لكلِّ حلم، والطريقُ نحو غدٍ مشرق، ومستقبلٍ مزدهر ..
إنَّ بناءَ جيلٍ مؤمنٍ بذاته، واعٍ بأهدافه، متوازنٍ في استخدامه للتقنية، يبدأ من احتضان الأمل في أعماقه، ورعايته كما تُرعَى البذورُ في مواسم الزرع ..
إنّ أبناءنا لا يحتاجون إلى تقنين وقت اللعب فقط، بل إلى من يُلهمهم معنى الحياة، ويغرس فيهم بذور الطموح، ويُشعل فيهم جذوةَ الشغف، حتى إذا تعثّروا عادوا إلى أنفسهم أقوى، وإلى دربهم أنقى ..
فلنتكاتف جميعًا في صناعة مستقبل أبنائنا، نغرس في أعماقهم روح الإبداع، ونسقي أحلامهم بماء الأمل، فالتفاؤل شعلة تضيء عتمة التردد، ودافع يحفز الخطى نحو غدٍ واعد، ومستقبلٍ يليق بطموحاتهم، ويستحق أن نحيا من أجله بكل حب وإخلاص ..
فاللهم احفظ أبناءنا، واجعلهم ذخرًا للوطن، وعزًا للأمة، ونبراسَ هدىً يُضيء دروب الحياة، وسواعدَ تبني المستقبل، وسفراءَ للخير ، والتقدم ، والازدهار .