الاهتمام الهادئ بلا مبالغة .. مسافة آمنة

بقلم ✍️ نهاد فاروق قدسي
احذرْ من المبالغة ..
الثقةُ الزائدة تُصبحُ غُرورًا ..
والمديحُ الزائد يُصبحُ نِفاقًا ..
والتفاؤلُ الزائد يُصبحُ سذاجةً ..!
كانت تلك الكلمات التي أيقظت سمعي وأثارت اهتمامي هي "مقولةٌ" قرأتها للكاتب والروائي الفرنسي "فكتو هوغو" والتي تطرق من خلالها إلى "المبالغة" تلك الدرجة التي تصطحب أي شعورٍ تضخيمًا وإفراطًا وإسرافًا ..
وكما نعلم جميعًا أن المبالغة هي تجاوز الحد المعقول في الأمور سواءً كانت مشاعرًا أو أقوالًا أو أفعالًا بما يتسبب في فقدان معناها وقيمتها ، ويسلبها البساطة ويهدر كرامتها ، وتأتي بنتائج عكسية وسلبية تؤذي صاحبها ؛ لذا فالتوازن مطلب و فن ، مَنْ أتقنه فقد حفظ كيانه، وحافظ على ذاته ..
ولكن ياترى .. هل حقيقةً أنَّ الانسان قد يُهزَم بالمبالغة في اهتمامه .. المبالغة في عطاءه .. المبالغة في محبته .. المبالغة في تقديره .. المبالغة في انتظاره للأشياء .. المبالغة في شعوره سواء فرحًا أو حزنًا .. المبالغة في تسامحه مع الآخرين .. ؟!
بالنسبة لي ، أرى أنه من المؤكد أن الاهتمام بحد ذاته شعور راقٍ ، ويعد من أسس استمرار العلاقات الإنسانية في مسارها الصحي القائم على التوازن والاعتدال والنضج ، مما يزرع في نفوسنا الطمأنينة والسعادة ، ويجعلنا نشعر تحت ظله بالتقدير والانتماء والراحة لا بالثقل والعبء . ومن الطبيعي أن يتجه الإنسان نحو ممارسة الاهتمام الهادئ .. جمال المسافة الآمنة والمساحات الشخصية .. و عدم تجاوز الحدود الطبيعية في كل شيء .
وإن العلاقات الناجحة الصحية المتزنة هي سر الراحة النفسية؛ فلنتعلم أن نحب باعتدال ، نتواصل بلطف ، نهتم بعقل ، نعطي بقدر ، ونسامح بحدود . والاهتمام الجميل هو الذي يُحافظ على العلاقات لا الذي يُرهقها ؛ فلنجعل الاهتمام طبيعيًا لا متكلفًا ، ولنتجنب المبالغةَ في رؤيتنا للحياة، ولا نزن الأشياء في غير ميزانها .
ومن جهة أخرى ، وعلى صعيد الدين الإسلامي كذلك، فإن المبالغة إذا انحرفت عن مسار الاعتدال تؤدي إلى الغلو، والغلو طريق الانحراف ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: « إياكم والغُلوّ في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين ». فلنحذر ثم فلنحذر من المبالغة .
ختامًا .. المبالغة في التوقعات يؤدي إلى الخيبة .. المبالغة في العطاء والبذل يؤدي إلى الاستغلال .. المبالغة في المسامحة والصفح يؤدي إلى التمادي .. والمبالغة في الطيبة والتنازل يؤدي إلى الخذلان ؛ لذا لابد علينا أن نُنزِل الناس منازلهم لا إفراط ولا تفريط، بل وسطية تُرضي خالقنا ، وتحفظ حقوقنا ، وتوازن أنفسنا حيث أن التوازن النفسي هو الوسطية في قمة تجلّياتها، وديننا دين الوسطية ، والوجود بأكمله قائم على مبدأ التوازن « لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ».