الزحام المصنوع... تسويق الوهم وإيهام العقول

حسن بن محمد المباركي.
في زمنٍ تتسلّل فيه الرسائل إلى العقول عن طريق البهرجة البصرية، وتُدار فيه القرارات بالاندفاع لا بالتأمل، وفي عصرٍ أضحى فيه الاصطفاف حول المنتج أكبر من جودة المنتج نفسه، غدا الزحام أداة تأثير نفسي مدروسة، تتسلل خفية لا إلى الجيوب فقط، بل إلى أعماق القناعات والذوق.
لم يعد الزحام مجرد حالة اجتماعية عفوية، بل تحوّل إلى مشهدٍ ممنهج، تتقنه العدسات، وتهندسه العقول التسويقية، ليكون أكثر إقناعًا من أي إعلان مدفوع...
ذات يوم، وبينما أمضي في تفاصيلٍ عابرة؛طلبًا لمتاع الحياة، استوقفني مشهدٌ لم تألفه عيناي، بدا لي من أول وهلة شيئًا من نسج الخيال: أجسادٌ مصطفّة، ورقابُ متقاربة، وأفواه مبتسمة، تهمس همس المشتاق لموعد اللقاء.
كان المشهد آسرًا، يشدّك دون أن تدري...لكن إلى أين؟! ولماذا كل هذا الاصطفاف؟!
اقتربتُ من المكان بدافع الفضول، وظننت أني على موعد مع تجربةٍ استثنائية، أو اكتشافٍ يستحق التوثيق، كل شيء يوحي بالروعة، حيث المظهر الباذخ، والانتظام المتقن، والوجوه المتهللة، والهمسات المتناثرة... كل شيءٍ يثير الدهشة، ويدعو إلى الفضول، غير أن شيئًا ما في المشهد لم يسلم من الريبة... ألحظُ نظرات تتكرر، وخطوات تُعاد، وأحاديثَ متشابهة، كأنها كُتبت في نصٍ واحد، شعرت حينها بأن وراء هذا الجمال المتقن يدًا خفية، تعبث بتفاصيل الصورة، تجيد ترتيب الوجوه، وتنظيم الزوايا، وربما توجيه الانفعالات أيضًا.
لم أشأ أن أُكمل المشهد، ولا أن أبحث عن حقيقةٍ؛ لأنني خشيت أن تُفسَد روعة الظاهر، لكنني خرجت مردِّدًا في نفسي: ليس كل إعجابٍ نابعًا من القلب، ولا كل ازدحامٍ دليل جودة.
نحن اليوم أمام مشهدٍ مُتقن الصنعة، لكنه خالٍ من الحقيقة، فيه خدعة بصرية تُسوّق للسلعة لا بما هي عليه، بل بما يبدو أنها عليه من خدعة الزحام، حيث تتحوّل الجماعات المتتابعة إلى أدوات إقناع، ويُصبح الإعجاب الجماعي وسيلة تضليل، تُروّج للمعروض من خلال وهم التجربة الجماعية.
هذا النوع من التسويق لا يخدع المستهلك فحسب، بل يُربِّي فيه عادة الانقياد البصري، ويقتل فيه فضيلة التحقق والتأني، فتضعف قدرته على التمييز، ويخفت ذوقه أمام سطوة الصورة، وضجيج الجماعة.
ولأن المستهلك هو الغاية من هذا المشهد المتقن، فقد وُجِّهت إليه كل عناصر الجذب والتشويق؛ فخلف كل ازدحامٍ صانعٌ ماهر، وواجهة لامعة، ومقطع دعائي يزهو بوجوهٍ ضاحكة مألوفة، توجد يدٌ خبيرة تستثمر في مشاعره لا في احتياجه، وتتقن صناعة التشويق أكثر من إتقان جودة المعروض.
فيُغرس في داخله شعورٌ بأن الجميع قد جرّب، وأنه الوحيد المتأخر عن ركب الفرصة الذهبية، فيمدّ يده لا عن قناعة، بل عن خوفٍ أن يفوته ما اعتقد أن الكل قد ظفر به.
وهنا مكمن الخطر التربوي والاجتماعي؛ إذ ينشأ جيلٌ يُساق بالإعجاب لا بالتجربة، ويُصدّق الجماعة أكثر من نفسه، فيضعف حسه النقدي، ويبهت حكمه بين بهرجة المشهد وصخب المتابعين.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى تربية الذوق، وتعزيز حسّ الاختيار، وترسيخ مبدأ: "اختر بعقلك، لا بزحام غيرك"، ويجب علينا أن نعلّم أبناءَنا أن البهرجة لا تصنع القيمة، وأن الاصطفاف والانسياق وراء كل ما يقال ويُعرض، لا يدل على الجودة، وأن الروعة الحقيقية ليست فيما يبدو لأول وهلة، بل فيما يثبت مع الزمن، ويَبقى بعد أن تخفت الأضواء، ويسكن الصخب، وتنحسر موجة الإعجاب الجماعي.
فيا أيها المستهلك، انتبه ولا تستسلم لعدوى الجماعة، ولا تنخدع بمظاهر الاصطفاف؛ فقد تكون أول الواقفين، وآخر المنتفعين، ومن استبدل عقله بعين غيره، فلن يرى الحقيقة ولو وقف في قلبها.