البيوت المهجورة من هواجس الخطر إلى فرص التنمية

بقلم ـ فاطمة محمد مبارك
في كل حي قديم أو حتى حديث ، تطالعنا بيوت مهجورة صامتة، جدرانها متصدعة ونوافذها متهالكة،تحمل ذاكرة أسر رحلت وتركت خلفها مبانٍ منسية تحولت مع مرور الزمن إلى مصدر قلق مجتمعي وأمني وصحي، يستدعي وقفه جادة وحلول مبتكرة.
البيوت المهجورة مع مرور الزمن تصبح مأوى لممارسات غير قانونية، أو بؤر لتعاطي المخدرات، أماكن للاختباء من قبل الخارجين عن القانون، ملاذ للجرائم السرقة والتخريب ، بل قد تسبب إصابات خطيرة للمارة، خاصة للأطفال الذين قد يلعبون بالقرب منها أو اقتحامها بدافع الفضول ، إضافة إلى ذلك، فهي تخفض من قيمة العقارات المجاورة وتشوه المشهد العمراني، فضلاً عن أنها بيئة خصبة للقوارض والحشرات، ومخزن للنفايات مما يهدد الصحة العامة.
وننوه أن هذا الخطر يشمل كافة المباني المهجورة سواء كانت خاصة، سكنية ،حكومية تجارية ،تاريخية ، أو تمتلكها الهيئة العامة للأوقاف أو الجمعيات والمؤسسات الخيرية ، ولا يقل عن ذلك خطر المباني قيد الإنشاء المفتوحة ،الخزان ،بئر المصاعد، إذ تركت بلا صيانة أو تحصين، لتتحول إلى فراغات مهجورة وسط النسيج العمراني.
هنا يظهر السؤال الكبير: كيف يمكن تحويل هذا “العبء العمراني” إلى قيمة مضافة للتنمية المجتمعية؟
تتعدد المسارات الممكنة لمعالجة البيوت المهجورة، لكن الحلول الأكثر فاعلية تتطلب مزيج من الحزم القانوني والتحفيز الإبداعي
1. قاعدة بيانات وطنية: رصد دقيق للبيوت المهجورة باستخدام أدوات تقنية مثل الطائرات بدون طيار وربطها بنظام معلومات عقاري موحد.
2. إلزام المالكين بالمسؤولية: عبر آليات واضحة لحسم النزاعات العقارية وتحديد الوضع القانوني للعقار، مع فرض غرامات على الإهمال طويل الأمد.
3. حوافز للتأهيل: منح إعفاءات ضريبية أو قروض ميسرة للملاك أو المستثمرين الراغبين في إعادة إحياء العقارات.
4. شراكات مجتمعية: تفعيل التعاون بين البلديات، القطاع الخاص، والجمعيات الأهلية لتحويل هذه البيوت إلى مشاريع مستدامة.
5. التوظيف الإبداعي: إعادة استخدام هذه المباني كمساحات عمل مشتركة، مراكز ثقافية، مكتبات مجتمعية، أو حتى حدائق حضرية صغيرة ،ويمكن كذلك تبني استراتيجيات متنوعة بحسب طبيعة العقار وموقعه وحاجة السوق، مثل: التأجير (سكني، تجاري، أو قصير الأجل للسياح)، البيع إذا أصبح العقار عبئ مالي، أو التحويل إلى استخدامات بديلة بين الجهات الحكومية كعقار سياحي أو منشأة دينية ، تعليمية أو خيرية.
الدروس العالمية-ففي نيويورك، جرى تحويل خط سكك حديدية مهجور إلى متنزه حضري عالمي تحت اسم “The High Line”، بينما تحوّل مصنع مهجور في برلين إلى مركز فني وثقافي يعرف بـ “Kunsthaus Tacheles”. هذه النماذج تثبت أن ما يبدو عبئا يمكن أن يتحول إلى مورد سياحي وثقافي واقتصادي إذا أحسن استثماره.
المطلوب اليوم ليس مجرد مبادرات متفرقة، بل برنامج وطني متكامل لمعالجة البيوت المهجورة، يرتكز على تشريعات أكثر صرامة ومرونة في آن واحد ،تمويل مبتكر عبر الشراكات بين القطاعين العام والخاص ، مشاركة فاعلة من المجتمع المحلي في التخطيط والتنفيذ .
ختاماً .. البيوت المهجورة ليست مجرد هياكل صامتة في الأحياء، بل مرآة تكشف قصور السياسات العمرانية والاجتماعية. لكنها، في الوقت ذاته، تحمل إمكانية أن تكون جزء من الحل إذا ما نظرنا إليها كفرص لإحياء التراث، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز جودة الحياة.
جسور للتنمية تربط الماضي بالحاضر، وتضيف إلى المدن بعد جمالي وتنموي يعكس روح التجديد.