|

ابن القرية (2)

الكاتب : الحدث 2025-05-03 10:51:08

بقلم المستشار: محمد بن سعيد أبوهتله

كنا قد تحدثنا في الأسبوع الماضي في حكاية “ابن القرية” عن ظروف زواج والدته وظروف ولادته، وكنا نرغب في استمرار الحديث عن الأحداث التي مرّ بها منذ الولادة، واستكمال السرد القصصي لأحداثٍ هي حقيقية، وإن كنا قد رمزنا لاسمه بـ “محمد”، مع الاحتفاظ بالاسم الحقيقي.

وقد وصلتني تعليقات كثيرة إيجابية ومشجعة حول معاناة الأمهات قديمًا، حتى أن كبار السن ممن تجاوزوا الخمسين عامًا قالوا إن هذه القصة تشبه قصة والدتهم، وطلبوا مني الاستمرار في الكتابة عن معاناة الأمهات، ليعرف بنات هذا الجيل ما كانت تعانيه الأمهات في الماضي، ويحمدن الله على ما نحن فيه من نعم، بفضل الله أولاً، ثم بفضل حكومتنا الرشيدة، وما وفرته لنا من سبل الراحة والرعاية الصحية.

وهنا سأتحدث عن أول ولادة لأم محمد والظروف التي مرت بها مع التطرق للألفاظ القديمة حفاظًا عليها كتراث لغوي .

أم محمد، كما ذكرنا، تزوجت وهي في السادسة عشرة من عمرها، وولدت مولودها الأول بعد عام من زواجها، أي في عمر السابعة عشرة. تقول: كنا نصحو قبل الفجر، وكان زوجي وإخوته يملكون مزارع كثيرة، ويعمل لديهم عدد من العمال بالأجرة. وكان من اللازم الاستيقاظ مبكرًا لأن لدينا مواشي، منها أبقار إناث تحتاج إلى الحلب، وثيران تُسرّح للعمل على الآبار ، أو في حرث المزارع.

وهذه الحيوانات تحتاج إلى غذاء دافئ، فنقوم قبل الفجر بساعتين بعمل (الرواكة)، وهي خليط من الطحين والماء مع بعض الإضافات – لا أعرفها أنا الكاتب – لكنها مادة سائلة تُشربها الأبقار قبل الفجر. ويجب على المرأة مراقبتها في الإناء عند رأس كل بقرة أو ثور حتى لا تُسقطها البهائم. وفائدة الرواكة أنها تمنح طاقة عالية للأبقار فتدر الحليب، وتُعين الثيران على تحمل العمل الشاق في الحرث ، أو السقي باستخدام (الغرب)، حتى يحين وقت غدائها، وله حكاية.

وبعد أن تُفطر الأبقار، يتم إعداد إفطار أهل البيت والعمال إن كانوا نائمين عندهم. أما إفطار أهل البيت، فيُشب على  التنور، وتُعد القهوة والحليب المصنوع من ألبان الأغنام أو الماعز فقط، أما حليب الأبقار فيُحوّل إلى لبن بخضّه في (الدبية). وعند عودة الرجال من صلاة الفجر في المسجد – وهنا ملاحظة: الرجال كانوا يحرصون على الصلاة في المسجد أو في مصلى مفتوح، ولا يصلون في البيوت أبدًا – كانت المصليات تُبنى من الطين، وأرضها من الرمل المعروف بـ(البطحاء). أما النساء فيصلين في البيوت، ويجتمعن بعد صلاة الفجر عند (الصلل)،مثل المنقل لكنه ثابت وتُشعل فيه النار إن كانت هناك فتحة في السقف تُسمى (الطاية)، تُغلق بحجرة مناسبة أو بصحن قديم. وإن لم تكن هناك فتحة، يُشعل الحطب خارجًا، ثم يُدخل إلى الداخل بعد أن يصبح جمرًا ، ويُوضع عليه (القوطي) في ما يُسمى بـ(حُق الضو).

تجتمع الأسرة عند الصلل، ويفطرون خبزًا وقهوة، أو تمرًا وقهوة، ثم ينصرف كلٌّ إلى عمله. الرجال في المزارع والآبار، وأما النساء – فما أدراك ما النساء! – فهن أصحاب الأعمال الشاقة، بلا رحمة ولا توقف. تخرجن الأبقار إلى الأحواش، والغنم إلى (الزربة) – وهي حظيرة من الشوك تُصنع من شجر الطلح – ثم يذهبن إلى المزارع ليصرمن (الحشّ) البرسيم، أو (العجور) القصب لإطعام البهائم. فيُعطين الغنم والبقر فطورها، ثم يحلبن الأبقار، ويقمن بتنظيف البيت فيما يُسمى(الحواقة).والحواقة تعني الكنس ،وكان يُشترى شجر يُسمى (الأبر) من الأسواق الشعبية، لا يوجد في منطقتهم بل في المناطق الجبلية، يبيعه أهل الجبال ويأخذون بثمنه ما يحتاجونه من السوق، الذي  لا يقام إلا مرة في الأسبوع.

وعند اقتراب وقت الضحى – حوالي الساعة العاشرة صباحًا بتوقيتنا الحالي، وكان  التوقيت سابقًا نوعين غروبي و  “زوالي” – تبدأ النساء في إعداد وجبة الغداء للعمال والأبقار. يُشعل التنور، ويُحلب الحليب، ثم يُخضّ في (الدبية) حتى يتحول إلى لبن. وكانت الابقار الحلوبة  تسمى (المنيحة). فإن كان تخرج زبدة كثيرة تُسمى (دهانة) – قالوا: “منيحتهم حلوا ”، وإن كانت قليلة قالوا: “منيحتهم ماش”، أي ليست جيدة.

ثم يُحضَّر غداء الأبقار من العجور (القصب)، يُكسر بطول 30 سم تقريبًا، وتُجمع عيدان من 4 إلى 6 وتُلف بالبرسيم في ما يُسمى (اللقم)، وتكفي تلك اللقم للبقر العاملة، ومن هنا جاء المثل الشعبي: “ثور مُلقّم”. وغالبًا تكون ثورين أو أربعة.

تحمل المرأة فطور العمال وفطور المواشي العاملة، تضع الخبز في (مطرح) من الخوص على رأسها، وتحمل اللبن بيدها، وأكل البقر على ظهرها، وإن كان لديها رضيع فيكون بجانبها في (المزبا)، أو ما يُسمى في أماكن أخرى (الميزب). وتوصله للعمال مشيًا مهما كانت المسافة، التي قد تصل إلى عدة كيلومترات.

عند الوصول، تُطلق البقر، ويجلس العمال تحت الأشجار للغداء، وتقوم المرأة بسحب الأبقار وتلقيمها اللقم التي حضرتها، ثم تعود للمنزل مع طفلها لمتابعة بقية أعمالها.

عودة إلى أم محمد عند ولادتها الأولى:
في سن السابعة عشرة، وبعد أن عادت من غداء العمال، شعرت بألم الولادة، فدخلت البيت، وجاءها المخاض، فانزوت في (قرنة) وهي زاوية من الحوش، وتحملت الألم وحدها، ولم يسعفها الوقت لمناداة أحد ، ويسّر الله عليها، فولدت بنفسها.

لكن المشكلة كانت في الحبل السري، إذ لم تكن تعرف ما هو، ولا كيف يُقطع، ولم ترَ ولادة من قبل. نظرت حولها، فوجدت فأسًا فوق الحطب، فأخذت قطعة حطب، وضعتها تحت الحبل، وضربته بالفأس فقطعته. ثم لفت مولودها بخرقة، وهي لا تعلم ما جنسه، فقد أنهكتها الولادة. وبعد الظهر، حضرت امرأة من الجيران، وقامت بتحسين قطع الحبل، وأخبرتها أن المولود أنثى.

وأنا هنا أورد معاناة إحدى أمهاتنا، لنعرف جزءًا من الحياة القاسية، والجهد المضني الذي كنّ يقمن به من أجلنا.
ورغم تلك المتاعب، حرصن على تربية الأبناء والبنات وخدمتهم، فأصبحوا اليوم وزراء ومدراء ووجهاء وتجارًا، وغير ذلك.

رحم الله من مات منهن، ومتع من بقي منهن بالصحة والعافية.

وللحديث بقية بإذن الله .....