|

عين الطفل الكفيف تبدأ من قلب أسرته ..

الكاتب : الحدث 2025-05-03 05:21:52

بقلم ـ عبدالله الكرشم عسيري


 تشكل الأسرة البيئة الأولى والحاضنة الأساسية لنمو الطفل الكفيف نفسيًا، اجتماعيًا، ومعرفيًا. ومع أن فقدان البصر قد يترك أثرًا عميقًا في إدراك الأسرة لمستقبل الطفل، فإن الدعم المبني على أسس تربوية وعلمية كفيل بتحويل التحدي إلى طاقة بناء. تنطلق هذه المقالة من مبادئ تربوية حديثة، وتسعى لتقديم رؤية إنسانية وعملية لدور الأسرة في دعم وتمكين طفلها الكفيف ليعيش حياةً مستقلة وفاعلة.  حين يُولد طفل كفيف في أحضان أسرته، لا يعني ذلك أن النقص قد وُلد معه، بل أن الحياة أهدت تلك الأسرة فرصة لتبصر بطريقة مختلفة؛ بعين القلب، لا بعين الوجه. ليس الظلام هو ما يخشاه الطفل الكفيف، بل غياب الفهم، وندرة الاحتواء، وضعف الإيمان بقدراته. ومن هنا، تبدأ رحلة الأسرة، لا بطرح الأسئلة المحمّلة بالخوف، بل بالبحث عن إجابات تبني، وتُمكّن، وتفتح الأفق.

ولم تُكتب هذه الكلمات عبثًا، وإنما انطلقت من واقع ملموس، وتجربة ميدانية عاشها الكاتب عن قرب، من خلال الاحتكاك المباشر مع أسر ذوي الإعاقة البصرية، ومن الاتصالات الكثيرة التي ترده من أمهات وآباء يسألون ويستشيرون، ويتوقون لمعرفة الطريق الأنسب للتعامل مع أبنائهم، دون أن يُشعروهم بأنهم أقل من غيرهم، أو أنهم عبء يجب التخفيف منه.

إن بداية الطريق تبدأ من القبول، لا القلق. فحين تحتضن الأسرة طفلها الكفيف بوعي، وتحتفي بوجوده لا بعيوبه، فإنها تضع اللبنات الأولى لبناء طفل سويّ، قادر على مواجهة الحياة. إن الطفل لا يحتاج أن تُقال له كلمات التشجيع فحسب، بل أن تُعاش أمامه، أن تُجسد في طريقة نداء اسمه، وفي شكل الإمساك بيده، وفي نبرة الصوت حين يُخطئ أو حين ينجح. فالإعاقة لا تلغي الحواس، بل تعيد ترتيب أولوياتها، والطفل الكفيف يسمع الحب، ويشعر بالثقة، ويخزنها في ذاكرته العاطفية طوال عمره.

لكن الحب وحده لا يكفي، ما لم يتحول إلى فعل تربوي. من الخطأ أن يُعامل الطفل الكفيف على أنه ضعيف دائمًا بحاجة لمن يعتمد عليهم، بل إن تمكينه يبدأ من أصغر التفاصيل: أن يُسمح له باتخاذ القرار، أن يتعلم من التجربة، أن يخطئ ويقوم، ويخوض الحياة لا كمُراقب، بل كشريك فيها. هذا التمكين لا يعني تركه لمصيره، بل منحه الأدوات والفرص لاكتشاف العالم وفق طريقته، ودعمه ليبني استقلاله بطريقة آمنة ومتدرجة.

ولأن العالم لديه لا يُرى، فإن الكلمة تصبح له مرآة، والصوت طريقًا، واللمسة جسرًا إلى الفهم. وهنا يكمن دور الأسرة في تطوير لغتها التعبيرية والوصفية: لا يكفي أن يُقال له “هناك”، بل يجب أن يُقال “الكرسي على يسارك بخطوتين”، وأن تُروى له القصص وكأنها تُبث من إذاعة داخلية تنبض بالحياة، بتعابير الوجه، وتغير نبرة الصوت، وتفاعل اليدين. فبهذه الوسائل، لا تنقل له الأسرة المعلومة فحسب، بل تخلق له عالمًا موازيًا مليئًا بالصور الذهنية الغنية والدافئة.

ثم يأتي دور التجربة والاحتكاك بالحياة. فليس من العدل أن يُحرم الطفل الكفيف من اللعب، أو المناسبات، أو الأنشطة الاجتماعية، بحجة الخوف عليه. الحماية المفرطة ليست حبًا، بل عزلة مقنّعة. فكل مشاركة حقيقية تمنحه مهارات جديدة، وكل تجربة تُكسبه ثقة، وتجعله يرى نفسه كما ينبغي أن يكون: فردًا فاعلًا، له مكانه، وله أثره، وله قدرته على التكيف والنمو.

ولأن العلم يؤكد أن التعليم العاطفي هو الأقوى أثرًا، فإن ما يُغرس في نفس الطفل من حب وطمأنينة سيظل راسخًا أكثر من أي منهج أو برنامج. فالعلاقة التي تُبنى على احترام الطفل، وتعليمه بالصبر، والاستماع له لا التحدث نيابة عنه، ترسم له ملامح المستقبل بثبات.

هكذا، حين تبصر القلوب، يُبصر الطفل الكفيف العالم من خلالهم. لا يحتاج إلى أعينهم، بل إلى صدقهم، ودعمهم، وإيمانهم العميق بأنه قادر أن يعيش حياته كاملة، مختلفة نعم، لكنها ليست ناقصة.

وأنا، عبدالله الكرشم عسيري، لا أكتب هذه المقالة لمجرد كوني إعلاميًا، بل أكتبها من عمق التجربة، ومن نبض الذات؛ فأنا كفيف، وأرى بعين الشعور ما قد لا يُرى بالعين المجردة. ما كتبته هنا ليس ترجمةً لنظرية جامدة، بل صوتٌ صادق لما رأيته وسمعته، وتفاعلٌ إنساني مع أسرٍ تلجأ إليّ بحثًا عن نورٍ يرشدها إلى أفضل السبل في دعم أبنائها. ومن هذا التفاعل وُلد هذا النص، ليكون مرآة للأمل، ودعوة للحب المبني على فهم ووعي.