توازن التقدم التقني مع إرادة الإنسان

بقلم د. بجاد بن خلف البديري
"العلم، مثل كل التكنولوجيا، ليس له ضميره الخاص، إذا ما كانت ستصبح قوة للخير أو الشر تعتمد على الإنسان."
هذه الكلمات التاريخية للرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي تضع حجر الأساس لتأمل عميق في عصرنا الحالي، حيث تتسارع وتيرة الابتكار التكنولوجي بشكل غير مسبوق، ما يدفعنا للتساؤل حول الدور الحقيقي للتقنية في حياتنا ومستقبلنا، وكيف يتشكل هذا المستقبل في ظل إرادة ووعي صانعيها ومستخدميها.
تؤكد المقولة بوضوح أن التكنولوجيا في جوهرها، هي مجرد أدوات قوية ومحايدة، وأنها ليست خيرة أو شريرة بطبيعتها، بل تعكس ما نود أن نكونه كبشر، سواءً تحدثنا عن الذكاء الاصطناعي الذي يعيد تشكيل الصناعات بآلياته الذكية، محولاً طرق العمل والإنتاج، أو التكنولوجيا الحيوية التي تعد بتحولات جذرية في حياتنا وصحتنا، ومغيرًا مفاهيم الطب وغيره، فإن تأثير هذه الأدوات الهائل - سواءً كان إيجابيًا لرفع مستوى معيشة المليارات وتحسين جودة حياتهم، أو سلبياً نحو الاستغلال، وتفاقم الفجوات الاجتماعية، أو تهديد الخصوصية - يتوقف بشكل كامل على القيم والأخلاق، والنوايا البشرية التي توجهها، إنها بمثابة عدسة مكبرة تُظهر نوايانا على نطاق واسع وغير مسبوق.
التحدي الحقيقي الذي نواجهه اليوم ليس فقط في مجاراة سباق التطور التكنولوجي، إنما هو بالتحديد في بناء هذه التقنيات بمسؤولية أخلاقية واجتماعية عميقة، فالأمر لا يتعلق بتحقيق الكمال الآلي المطلق أو "صفر أخطاء" في الأنظمة، وهي نقطة بالغة الأهمية، بل يتجاوز ذلك إلى ضمان أن تكون هذه التقنيات قادرة على تقليل القصور البشري وتخفيف أضرار الأخطاء المحتملة. الأهم هو أن تُصمم وتُستخدم في خدمة الإنسان والمجتمع بأسره، وأن تقودنا نحو عالم أكثر كفاءة ومرونة، ووفرة، مع الحفاظ على القيم الإنسانية الجوهرية كالعدالة والكرامة والتعاطف، وهذا يتطلب توازنًا دقيقًا بين الابتكار السريع والتبصر الأخلاقي.
وإذا ما أخذنا مثال المركبات ذاتية القيادة، فإن الهدف الأسمى لهذه التكنولوجيا أن تكون مصممة لكي تعزز من قدراتنا الفردية والجماعية، وأن تجعل حياتنا أكثر أمانًا وفعالية، وتحررنا للتركيز على الجوانب الأكثر إبداعًا وتعقيداً وإنسانية في وجودنا، وهو الأمر الذي ينفي أن يكون هدف هذه التقنية أن تحل محل الإنسان أو أن تعمل بمعزل عنه لتتخذ القرارات المصيرية، وهذا يتطلب أن تبقى التكنولوجيا دائماً تحت قيادة الضمير البشري الموجه، والقدرة على المساءلة والتصحيح المستمر.
وفي هذا السياق، تبرز الجهود الرائدة التي تبذلها حكومتنا الرشيدة، ممثلة في الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، التي لا تكتفي بتعزيز علوم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها فحسب، بل تعمل جاهدة على ترسيخ أخلاقيات استخدامات التقنية ووضع الأطر الحاكمة لها، مما يؤكد التزام المملكة بضمان أن يكون هذا التقدم التكنولوجي موجهًا لخدمة الإنسان ومصلحة المجتمع. هذا يدعونا جميعاً - كمطورين، مستخدمين، صانعي سياسات، ومواطنين - إلى التفكير بعمق في مسؤوليتنا الجماعية، ويتوجب علينا ضمان أن مسار التكنولوجيا يخدم الخير المشترك، ويصون كرامة الإنسان، ويسهم في بناء مستقبل مزدهر ومستدام للبشرية جمعاء.