(الشريك الأدبي): مبادرة لصناعة الكلمة، وجسر الثقافة للمستقبل

بقلم - حسن بن محمد المباركي
—————————
الأدب في حقيقته ليس ترفًا يُضاف إلى حياة الناس، بل هو جوهر أصيل من تكوينهم، وسجلّ أمين لأفكارهم، وتجاربهم، وأحلامهم.
لقد كان الإنسان منذ فجر التاريخ يتطلّع إلى التعبير بالكلمة، سواء في صورة قصة يرويها تحت ضوء القمر، أو بيت شعر يتغنّى به في البادية، أو نص فلسفي يتأمل فيه أسرار الوجود.
الأدب هو الذاكرة التي تحفظ ملامح الأمم، والمرآة التي تُظهِر وعيها، والصوت الذي يتجاوز حدود المكان والزمان، ليصل إلى الأجيال القادمة، ومتى ما غاب الأدب عن المجتمع، انكمش الخيال، وضاق الأفق، وخفت صوت الحوار.
وقد ارتبط الأدب دائمًا بالمجالس والمنتديات، فالمكان لم يكن مجرّد جدران تحيط بجلسة، بل كان رحمًا للفكرة، وفضاءً تنمو فيه الرؤى؛ ومن هنا اكتسبت المقاهي الثقافية دورها التاريخي، إذ لم تكن ملاذًا للراحة فحسب، بل كانت منصات لصناعة الفكر وبسط الحوار.
في مقاهي القاهرة ودمشق وبغداد، التقى الكُتّاب والشعراء، وتشكّلت مدارس فكرية، ونمت مشاريع إصلاحية، وارتفعت أصوات طالبت بالنهضة والتجديد، ولقد كانت جلسة القهوة شاهدًا على نشوء النصوص، وعلى انبثاق رؤى كبرى، غيّرت مجرى الأدب العربي الحديث.
ولعل أجمل ما في هذه الحكاية أنني ذات يوم، وفي إحدى المناسبات الثقافية، تلقيت دعوة لحضور أمسية أدبية في مقهى شهير بتقديم القهوة، الأمر الذي أدهشني، حيث ارتبط الأدب بالمجالس والمقاهي، فشعرت أنّي أعيش مجالس الأدباء الكبار أمثال: العقاد وطه حسين والمنفلوطي، وأستمعُ إلى سجالاتهم، وأرقب نصوصهم وأحاديثهم، وهي تتشكّل في دفاترهم. فكم من فكرة وُلدت بين جلساتنا! وكم من نص نضج في أجواء حوار ثري بين الأدباء والمثقفين!
إن للأمكنة ذاكرة لا تزول، فحين يعود الأدب إلى المقاهي، فإنما يستعيد جذوره ويجدّد حضوره. ومن هذا الإرث الثقافي العريق جاءت مبادرة "الشريك الأدبي" التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة، لتعيد للأدب حضوره بروح عصرية، فتقرّبه من الناس، وتحول المقاهي والجلسات إلى منصات نابضة بالحوار والإبداع.
إن هذه المبادرة لا تعني فقط تنظيم فعاليات، بل تعني إحياء الأدب؛ ليكون جزءًا حيًّا من تفاصيل الحياة اليومية، فهي تفتح الأبواب أمام جميع فئات المجتمع، ليغدو الأدب مشاعًا للجميع لا حكرًا على النخبة، حيث يلتقي القارئ بالكاتب، والشاب بالشيخ، والمرأة بالرجل، في فضاءات تتلاقى فيها التجارب وتزدهر فيها الأفكار.
واليوم تعود المقاهي الأدبية، لتؤكد أن المكان ليس رائحة البن أو دفء الجلسة فحسب، بل هو جسر للحوار الثقافي، وفضاء رحب يجمع مختلف الأطياف، وهنا يتساوى الحضور بين المثقف والطالب، والكاتب والمبتدئ، فيتشكّل مشهد إنساني متكامل، يثبت أن الثقافة لا تحتاج إلى منابر رسمية بقدر حاجتها إلى صدق الكلمة وقربها من الناس. ومن هنا يأتي دور "الشريك الأدبي" ليجعل من المقهى ملتقى حيًّا للأدباء والقراء، وليعيد للأدب مكانته في الحياة اليومية.
ولم تتوقف المبادرة عند إقامة الأمسيات الشعرية أو المحاضرات النقدية، بل تنوّعت فعالياتها لتشمل ورش الكتابة الإبداعية، والحوارات المفتوحة مع الروائيين والمفكرين، وجلسات القراءة الجماعية، والعروض الثقافية المصغّرة، فكل نشاط من هذه الأنشطة صُمّم ليمنح المشاركين تجربة متكاملة، يتذوقون فيها جمال الكلمة، ويطوِّرون مهاراتهم، ويكتشفون آفاقًا جديدة للفكر والإبداع.
وفي هذا التفاعل، يصبح المقهى فضاء نابضًا بالحياة الثقافية، ويغدو الأدب قريبًا من القلب، قادرًا على أن يترك أثرًا عميقًا في النفوس والمجتمعات.
وما يميّز "الشريك الأدبي" أنه يكسر الحاجز التقليدي بين النخبة والجمهور. فالأدب هنا ليس نصًا يُقرأ في عزلة، ولا حوارًا يُدار بين قلة، بل هو فعل مشترك يشارك فيه الجميع، فقد تكون أمسية قصيرة بداية رحلة قارئ جديد، أو شرارة توقظ موهبة شاب، أو نافذة يطلّ منها طفل على عالم الحكاية، وعندئذٍ يتحوّل الأدب إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية، ويصبح كل فرد شريكًا في صناعة مشهد ثقافي حيّ.
إن "الشريك الأدبي" أكثر من مبادرة؛ إنه رؤية تستعيد للأدب دوره في صياغة المجتمع وتشكيل وعيه، فالأدب ليس ترفًا يُستغنى عنه، بل هو أسلوب حياة يُهذِّب الروح، ويعمّق الانتماء، ويوسّع الأفق.
فلنكن جميعًا شركاء في دعم الأدب، وفاعلين في إنجاحه، مؤمنين أن الثقافة هي الجسر الذي يعبر به الإنسان إلى إنسانيته الكاملة.
ولنفتح قلوبنا للمبادرة، ولنُسهم في فعالياتها، ولنجعل من الكلمة جسرًا حيًّا يصلنا ببعضنا ويقرّبنا من ذواتنا، ولْنكن شركاء في بناء فضاء ثقافي نابض بالحياة، يربط الأجيال، ويعزّز الحوار، ويجعل الأدب حاضرًا في تفاصيلنا اليومية.
سائلين الله أن يبارك هذه الجهود، وأن يجعل الثقافة نورًا يهدي العقول، ويهذّب الأرواح، ويمنح مجتمعنا أفقًا أرحب وإبداعًا أعمق، حتى تبقى الكلمة منارةً تُضيء الدرب، وصناعةً تبني المستقبل.