|

*العُزْلَةُ ،مِرْآةُ الذَّاتِ وَرِحْلَةُ الاكْتِشَافِ*

الكاتب : الحدث 2025-07-23 02:40:47

بقلم ـ حسن بن محمد المباركي

 

في صباحٍ دراسيٍّ ساكن، يلفّه هدوء البدايات، لمح أحدُ المعلمين طالبًا متفوقًا، عُرف بابتسامته الحاضرة، ومشاركاته النشطة، وروحه الوثّابة، وإذ به يجلس وحده في ركنٍ من أركان الفصل، واجمًا، صامتًا، لا يُتحدث مع أحد،ولا مكترثًا بما يدور من حوله.

اقترب منه المعلم برفقٍ، وجلس إلى جواره، وسأله بصوتٍ هادئ: يابني، أراك ساكتا، شارد الذهن، فهل أنت بخير؟ لم تبدو وكأنك في عالم آخر؟

رفع الطالب عينيه ببطء، وأجاب في هدوءٍ، ينمُّ عن عمقٍ غير مألوف في مثل سنّه: نعم يا أستاذ، أنا بخير، لكنّ رأسي مزدحم، وأنا بحاجة إلى أن أُصغي إلى نفسي، أحتاجُ إلى أن أُعيد ترتيب أفكاري، بعيدًا عن هذا الضجيج المتواصل.

أطرق المعلم رأسه قليلا، كأنَّ كلماته قد أيقظت شيئًا في داخله، ثم قال مبتسمًا: يا بُني، ما أحوجنا إلى العزلة أحيانًا، فأكثرُ الناس لا يُدرك أن العزلة الواعية هي رجوع إلى الذات، لا انسحاب من الحياة.

ذلك الموقف العابر، وإن بدا هيّنًا في مظهره، فإنه يحمل في طيّاته معنًى عميقًا، أُسِيءَ فهمه مرارًا، وتهاون الناس في إدراك قيمته.

فالعزلة في أذهان الكثيرين ما تزال مرتبطة بالانغلاق والانكفاء، أو الهروب من مواجهة الحياة، بينما هي في حقيقتها لحظة صحو، وفرصةٌ للتخفيف من ضغوط الزحام، ومجالٌ لترتيب الداخل، الذي بعثره فوضى الخارج.

فبين أروقة الحياة المكتظة، حيث تتداخل الخُطَا، وتتزاحم الأصوات، وتضيع وسطها الكلمات، وتتغير الملامح في صخب الازدحام؛ تتوق النفس إلى لحظة هدوء، وظلٍّ تتنفس فيه ذاتها، وتستعيد فيه توازنها، وتخلع فيه أقنعة المجاملة، لتسمع صوتها الأول…صوتها الحقيقي.

في لحظة العزلة الواعية، يبدأ العقل ترتيب ما تبعثر، ويجمع القلب شتاته، وتتضح الأهداف، وتنكشف أبعادٌ داخليةٌ، ما كان لها أن تظهر في كثرة الزحام.

إنّ العزلة ليست انقطاعًا عن العالم، بل انعطافة هادئة نعود بها إلى العالم، فتكون أنقى إدراكًا، وأصفى نيةً، وأقوى عزمًا.

لقد بات هذا العصر يُمَجّد الظهور، ويبالغ في التفاعل، ويُروّج لثقافة الاندماج، ونسي أن الصمت حكمة، وأن الخلوة مَعينٌ لا ينضب، وأن أعظم أفكار البشر ما وُلِدَت في ساحات الندوات، بل في صمت الليل، وسكينة الوحدة.

ومن الخطأ أن تُقاس العقول جميعًا بمقياسٍ واحد، فبعض العقول لا تُنير إلا إذا اختلتْ، ولا تُنتج إلا إذا هدأَتْ، ولا تُبدع إلا إذا سكنتْ.

وحين يُمنح المتعلّم لحظة صفاء، أو يُترك له مجال تأمّل، تنجلي في داخله طاقاتٌ، كانت مشاغل الحياة تحجبها، وكثرة المسؤوليات تمطسها.

ولذلك، فإن الأنظمة التربوية بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في موقفها من العزلة، فقد بالغت في تمجيد الحضور الجماعي، والتفاعل المتواصل، حتى غفلت عن حاجة بعض النفوس إلى لحظة خلوة تُضيء الداخل، وتُعيد تصويب الاتجاه لمن اضطرب عليه المسار.

فيا مَنْ تظن العزلةَ علامةَ هروبٍ، تمهَّلْ وتأمَّلْ، فلعلّ فيها القوةَ التي تُفتّش عنها، والبصيرةَ التي تُنير طريقك، والخطوةَ الأولى في مسيرتك إلى ذاتك، ولربما كانت الخلوةُ التي هجرتها هي السكينةَ التي افتقدتها، والنورَ الذي تنتظره منذ زمن بعيد.

فليس الصخبُ معيارًا للحياة، ولا الازدحامُ دليلًا على الإنجاز؛ فقد تكون الحكمة في الصمت، والنضج في الوحدة، والحياة الأصفى في عزلةٍ، تُدرَك بالبصيرة قبل البصر.

فابحثْ عن سكينةٍ تختبئ في ركنٍ هادئ، واختلِ بنفسك خلوةَ الصادق مع ذاته، ثم اخرجْ منها وقد انكشفتْ لك معالم الطريق، واستقام لك الهدف، وأشرق في قلبك صوتُ الحقيقة: هذا أنت، وهذا دربُك.

إنّ العزلة الواعية مرآة صادقة؛ لا تعكس مظهرك فقط، بل تنفذ إلى أعماقك، فتكشف جوهرك الحقيقي، وتُعيد إليك صوتك الأصيل قبل أن تُخفيه ضوضاء الحياة، وتُنعش فيك أحلامًا كادت تندثر تحت وطأة الانشغال

فلنعلِّم أبناءنا أن الخلوة بالنفس ليست ضعفًا، بل مصدر قوّة، وأن العزلة الواعية ليست فرارًا من الواقع، بل هي عودةٌ إليه بقلبٍ أقوى، وبصيرةٍ أصفى، ونغرس في نفوسهم التوازن بين الصمت والكلام، وبين التأمل والتفاعل؛ إذ في لحظات السكون تنبثق الأفكار العميقة، وتترسّخ ملامح الشخصية الواعية، وتتكشّف معالم الذات الأصيلة.

وما أجملَ أن يكون في برامجنا التربوية متنفسٌ هادئٌ، يتعلّم فيه الطالب كيف يتأمّل ذاته، ويُعيد ترتيب عالمه الداخلي.

نسأل الله أن يعيننا على غرس هذا الوعي في نفوس الناشئة، وأن يجعل من عزلتهم طاقة بناء، ومن تأملهم بصيرة نماء، ومن خلواتهم منطلقًا لتحقيق المستهدفات، وبناء مستقبلٍ واعدٍ يواكب التطلعات، ويُجسّد رؤية المملكة 2030.