|

التجربة والتقويم يرسمان ملامح العودة إلى الفصلين

الكاتب : الحدث 2025-08-18 08:42:36

بقلم: حسن بن محمد المباركي

قبل ثلاث سنوات، دخلتُ أحد الفصول الدراسية، فاستقبلني الطلاب مبتسمين ابتسامات مشرقة، كان معلمهم يشرح الدرس بطريقة جديدة، وفي أعين الجميع بريق الاهتمام والاكتشاف، كانت لحظة قصيرة، لكنها حملت معها بوادر تجربة تعليمية غير مسبوقة، استشرفتُ في أعينهم آمالًا كبيرة، وطموحات عالية، فتحتْ آفاقًا للتطوير، ورغبة في التغيير.

كنتُ قريبًا من تفاصيل التجربة، أتابع خطواتها في المدارس، وأصغي إلى المعلم وهو يروي خبرته، وأرصد تفاعل الطلاب، وهم يعيشون لحظات التعلم، وأستمع إلى وليّ الأمر وهو يلمس أثر التجربة على أبنائه.

واليوم مع عودتنا إلى نظام الفصلين الدراسيين،  فإننا لا نعود إلى الوراء، بل نعود بخبرة أعمق، وبصيرة أوضح وأدق، وقرارٍ مبني على دراسات معمّقة، وحوارات واسعة مركَّزة، تزيدنا يقينًا بأن التعليم في المملكة يسير بِخُطًا واثقة نحو المستقبل.

ومن خلال التجربة السابقة، نرى أن الفصول الدراسية الثلاثة أسهمت إسهامًا واضحًا في معالجة الفاقد التعليمي، ورفع مستوى أداء الطلاب في الاختبارات الوطنية، وتعزيز برامج التطوير المهني للمعلمين، والمشاركة في تطوير المناهج، وتحسين البيئة التعليمية، فضلاً عن رفع مستوى الحوكمة ومراقبة الالتزام. 

والأهم من ذلك كله، أنها منحت المدارس مزيدًا من الصلاحيات والمرونة؛ لكي تصبح نواة حقيقية للتغيير، والإبداع، والتميز.

إن العودة إلى نظام الفصلين الدراسيين، ليست مجرد تعديل في التقويم، بل خطوة إستراتيجية تهدف إلى تطوير بيئة التعلم، وضمان استدامتها، بما يتوافق مع التوجهات العامة لتطوير التعليم ورفع كفاءته، وإتاحة فرص أكبر للتخطيط الفعّال، مع استمرار برامج التطوير المهني وتطوير المناهج، في بيئة أكثر مرونة.

ومع ذلك، فإن قيمة التجارب لا تقاس بمدتها الزمنية، بل بقدرتها على إنتاج المعرفة، والتوجيه الأمثل نحو القرار الأقوم؛ ولهذا جاءت العودة إلى نظام الفصلين الدراسيين تأكيدا على أن التجربة الماضية لم تكن محطة عابرة، وإنما كانت أساسًا لمرحلة جديدة، تُستثمَر مكاسبها، وتُبنى عليها ما هو أصلح للمستقبل.

ولم يأتِ القرار إلا بعد عملية تقويمية شاملة، شملت دراسات مستمرة، ومقابلات عديدة مع خبراء وقيادات تربوية، إلى جانب مراجعة التقارير والوثائق الدولية، والاطلاع على التجارب التعليمية الناجحة عالميًا، كما شارك في الاستطلاع الإلكتروني عددٌ كبير من أولياء الأمور والمعلمين والطلاب، لتتضح بذلك الصورة الكاملة، وتُبنى الرؤية على أساس متين من البيانات، ومرئيات أصحاب المصلحة وصُنَّاع القرار.

لقد كان لوزارة التعليم خلال السنوات القليلة الماضية جهد كبير، في إعادة تشكيل بنية المدرسة السعودية، بما يتناغم مع مستهدفات رؤية 2030، حيث تكاملت البرامج الداعمة لرحلة الطالب من الصفوف الأولى حتى المرحلة الثانوية، وتنوعت الأساليب الحديثة في التدريس، من التعليم المدمج، والتقويم البنائي، واستخدام المنصات الرقمية، إلى تعزيز الأنشطة غير الصفية، التي تسهم في صقل الشخصية، وتنمية مهارات التواصل والعمل الجماعي. 

ولعلّ الأهم في هذه المسيرة التعليمية، أن المدرسة تحوّلت من مجرد قاعة تلقين إلى بيئة متكاملة للتفكير والإبداع، يقودها معلمون مؤهلون، ويشارك في صنعها أولياء أمور واعون، ويعيش تفاصيلها طلاب متحمسون لحاضرهم، ومتطلعون إلى مستقبلهم.

إن قرار العودة إلى الفصلين الدراسيين، يؤكد على أن التعليم في المملكة يسير وفق خطة دقيقة، تستند إلى دراساتٍ رصينة، تستوعب آراء المجتمع، لتضمن استمرار التعليم في مواكبة متطلبات الحاضر، وصنع مستقبلٍ يليق بالوطن العزيز، ويرتقي بطموح أبنائه إلى آفاق المجد والريادة، والعلم والإبداع والسيادة.

وفي النهاية، يظل الرهان الأكبر على التنفيذ الفعّال لهذا النموذج خلال السنوات المقبلة، فنجاح التعليم يقاس بالقدرة على خلق بيئة تعليمية محفزة، وتطوير مناهج متجددة، وتأهيل معلمين متميزين أّكْفَاء، وتمكين طلاب قادرين على الإبداع، يشرفون الوطن محليًّا، وينافسون أقرانهم عالميًّا؛ وذلك ليبقى التعليم دائمًا مصدر فخر للوطن، وركيزة لبناء نهضته الشاملة.

سائلين الله أن يحفظ بلادنا وقيادتنا، ويبارك في تعليمنا، ويهيئ لأبنائنا وبناتنا من أمرهم رشدًا، ويفتح لهم أبواب العلم النافع، والعمل الصالح، ليكونوا أعمدة مجد في رفعة وطنهم، ورُوّادًا لنهضته، وحَمَلةً لرسالته، وحُماةً لقِيَمَهِ، ومُجسِّدين لطموحاته، وعُنوانًا لعزته، وبُنَاةً لحاضره ومستقبله.