النعمة والتباهي ... حكاية زمن

بقلم ــ محمد بن عبدالله العتيّق
لا نعلم حقيقةً إلى أين يسير بنا زمن أصبح فيه مقياس الشهرة هو عدد المرات التي يظهر فيها المرء أمام الكاميرا. لقد انتشرت بيننا فئة تُعرف بـ"المشاهير"، ولا نعرف أي قيمة حقيقية قدموها للمجتمع أو الوطن، سوى التهريج والتباهي بكل ما هو عادي. إنها ثقافة تستعرض النعمة التي هيّأها الله لهم: من حياة مترفة وطعام فاخر، إلى منزل باذخ، وسيارة فارهة، وكأن هذا التفاخر يكمن في تصوير علبة ماء وتقديمها للأم والأب مع تقبيل الرأس أمام عدسات الكاميرا.
الأدهى من ذلك، أننا نرى تصويرًا زائفًا للسعادة في المنزل والسفر، بينما تكون الكواليس عكس ذلك تمامًا. إنها سعادة مصطنعة تُعرض للناس، في حين أن حقيقة المشاعر قد تكون مؤلمة. والأمر الأكثر إيلامًا هو أن هؤلاء، ممن لا يملكون شهادةً ولا خبرة حياة ولا تجارب عميقة، يصبحون مصدرًا للنصائح، فيتحدثون وينظّرون في كل الأمور؛ الاجتماعية، والزوجية، والتربوية، وكأن الشهرة منحتهم الحكمة والخبرة ليقدموا إرشادًا للناس.
وأكثر ما يؤلم القلب هو مشهد الأب الذي يذهب إلى المدرسة حاملاً الهدايا لطفله الناجح من روضة أو ابتدائي ، ليحتفل به أمام بوابتها، غير آبهٍ بدموع أطفال آخرين عادوا إلى منازلهم محطمي القلوب؛ منهم اليتيم الذي ليس له أب يهديه ، ومنهم من حرمته الظروف من مثل هذه اللحظات.
إنها قلة عقل، وقلة إدراك، وعدم مراعاة لمشاعر الآخرين.
على النقيض من ذلك، هناك رجال ونساء تعلمنا منهم أن قيمة المال ليست في استعراضه. هؤلاء هم من عرفوا قيمة النعمة لأنها لم تأتِ إليهم بسهولة. إنهم التجار الحقيقيون الذين كسبوا ثروتهم بجهد وعرق، فهم يقدرون قيمة كل ريال، لأنه ثمرة سهر وجهد وتعب. هؤلاء الرجال لم يأتهم المال بسهولة، بل جاء بعد عمل وكدح وسفر ومفاوضات، ولذلك هم يحافظون على ما لديهم ولا يتفاخرون به. كذلك، حينما يكون لديهم المال، فإنهم لا يبخلون به في سبيله، بل يساهمون في المشاريع الوطنية الثقافية والتعليمية، وفي كل ما يفيد المجتمع، لأنهم يدركون أن هذا هو المكان الحقيقي لهذه الأموال. هؤلاء الرجال هم مَنْ نفتخر بهم في الوطن، وهم الذين قدموا له الشيء الكثير، وهم وحدهم من نعتبرهم المشاهير الحقيقيين لدينا.
الأمر الآخر، حينما تقدم عطاءً من مالك، ماذا تبتغي منه؟ هل تريد مدح الناس وثناءهم، أم تريد الأجر من الله عز وجل؟ إن كنتَ تريد مدح الناس فقد أخذته في حينه، أما إن كنتَ تريد الأجر من الله، فإن الله سبحانه سيعطيك أضعافًا مضاعفة بفضل صدقة السر التي قمت بها.
فالله يعلم أنك فعلت ذلك لأجله وليس لأجل البشر. وهذا الأجر ستجده أمامك في أي وقت تحتاج إليه، وفي وقت لا ينفع فيه مال ولا بنون.
هؤلاء الرجال الحقيقيون هم من يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". هم لا يصورون عطاءهم، ولا يتباهون بصدقاتهم، لأن غايتهم ليست مدح الناس، بل رضا الله. ويكفيهم دعوة صادقة من قلبٍ محتاج. هذه الأفعال الخبيئة هي زادهم، فإذا ألمت بهم ضائقة، وليست الضوائق مادية فقط بل ربما صحية أو أي أمر آخر من أمور الحياة التي تكدر خاطر الإنسان وتذهب الراحة عنه ، رفعوا أيديهم في جوف الليل، بعد أن يصلوا لله ما كتب لهم ومن ثم يرفعون أكف الضراعة داعينه وذكَروا تلك الأعمال الصالحة (الخبيئة التي لا يعلمها إلا الله ) ، وهم على يقين أن الله سيفرج عنهم بفضل ما قدموا، تمامًا كقصة الثلاثة الذين أواهم المبيت إلى غار فأنجاهم الله بفضله ثم بعمله الصالح الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه .
وفي النهاية، هل يدرك هؤلاء أن المال لا يدوم؟ ، فمن كان غنيًا بالأمس قد يصبح فقيرًا اليوم، ومن كان فقيرًا اليوم قد يصبح غنيًا غدًا . إنها الحياة التي لا تثبت على حال والشواهد كثيرة حالية ومن الزمن الماضي . لذلك، فإن الأثر الحقيقي الذي يتركونه في نفوس الآخرين وفي المجتمع هو الذي يبقى خالدًا. إنهم يدركون أن قيمة الإنسان ليست في ما يملك، بل في ما يفعله بالخفاء، وفي احترامه لمشاعر الآخرين، وفي إسهامه في بناء وطن لا ينسى أبناءه.